"نصّارٌ" في حياته.. "كريم" في الغياب ! بثينة حمدان
في الأربعين نكفن آهاتنا ودموعنا، ونُغَمِّد رحيلك في سيف انتصر كثيراً على الشر والحزن من حولنا، ونرسل إلى السماء بريقاً يُشبِهُ برق موتك المفاجئ، في الأربعين نُقسِمُ أننا لم نعرف قبلك معنىً للموت، وصار بعدك حكاية ها نحن نرددها كل يوم؛ كيف لا؟ وأنت هذا الرجل "كريم" الابتسامة ونصير الفقراء إلى الفرح في غزة، والـ "نصّارُ" لمبادئه ورسالته الانسانية. لقد ذهبت وبقي امتداد شفاهك إلى اليمين واليسار بسمةً حطّت على كل أزهار نيسان بإصرار على نثر الفرح، كريماً شهماً بلا حدود. أما الأحياء فقد انتصروا وانتفضوا بآلامهم لغيابك رغم ثقل الرحيل؛ العبد لله، عبد الكريم نصار؛ هو "نصّارٌ" في حياته و"كريم" في رحيله!
مستكيناً باسماً خاشعاً سقط على سجادة الصلاة بهدوءٍ شديد ونام.. هكذا عاش وهكذا قال وداعاً. جاءه الموت خَجِلاً طالباً الرحمة من كل محبيه، خجِلاً من سيرته العطرة وحضوره الراقي، عاش طبيباً صيدلانياً مُطبباً لجراح الكثيرين، وصديقاً وأباً وأخاً مطبباً للآلام. شغوفاً بكل طفل وشاب يصعد درجة نحو الأمام. ثائراً مناضلاً بهدوء وصمت، لا اختلاف معه ولا اختلاف عليه، لذا خرج في جُنّازِه الآلاف في غزة مُودعين، وباكين رغم آلامهم الراكدة، ازدادت المدينة شحوباً، وسكن بحرها، وخفتت شمسها لهذا الغياب القسري.
في رحيلك يا "عمو" تكشّف لي الماضي كله، وأنت أحد رموزه بل وأجملها، قبل سنوات في زيارتك الأخيرة إلى رام الله لحضور اجتماع المجلس الاستشاري لحركة فتح قلتَ لي كعادتك بعد أن منحتني وجبة مفيدة من الضحك: والله يا بسينة! بثينة بصوتك بالسين وليس بالثاء، سينُ اللهجة الغزاوية، سين تجردت من نقاطها لتكشف كل ما هو مدفون في جوفها.. سين العامة والشعب وليس ثاء النخبة، وأنت كنت وستبقى من العامّة رغم وجودك في الصف القيادي سياسياً وطبياً. كنت أفهم عليك طفلةً ومازلت أفهم عليك كبيرةً، فكلامك سلس، واجاباتك بسيطة ومعبرة، سألتك ماذا فعلتم في الاجتماع فقلت: ولا شيء. وهذه هي الحقيقة: ولا شيء!
رحلَتْ أحد أركان طفولتي المغتربة والغريبة، فأنا ابنة الوطن السليب، رحل ظلها الأبوي، رائحة العمومة الأولى، فأنت عمي الأول؛ في تونس/الغربة حيث كنا نعيش وعددٌ من العائلات الفلسطينية في حي المنزه السادس، كان العيد مختلفاً، ففي العادة يترك سكان الحي أهل البلد، التونسيون المحبون لنا ولقضيتنا، يغادرون المكان ذاهبين لقضاء العيد مع الأجداد والجدات، يعودون في اليوم الأخير ربما، حينها يبدأ العيد الحقيقي، أتلذذ بفُتاته، ارتدي الفستان، وابتاع الحلوى وأقضي بقية اليوم وأنا أستمع لصديقاتي يتحدثن عن العم والخال والعيديات والمشاوير وأجواء العائلة الممتدة. كان عزاؤنا في العيد أصدقاء العائلة؛ الفلسطينيون الذين يتّحِدون في الغربة هم عائلتي، وبينهم طبعاً عمو عبد الكريم، هو وغيره رمز أقاربنا الذين بقيوا في الأرض المحتلة أو تشتتوا هنا وهناك. ولم أعرف الفرق بين عمي في الغربة وعمي شقيق والدي إلا بزيارة عمي الخياط علي حمدان قادماً من الضفة، وحين التقى الاثنان تنبهت طفولتي فقلت: عمي علي.. هذا هو عمي الحقيقي! ولم افهم كل كلمات "عمو.. عمو.. عمو" التي كنت أقولها لكل الرجال من حولي في ذلك الوقت.
اليوم الحقيقة مختلفة، برحيله، غاب العم والأب والخال والصديق، وبعيداً عن هذه المسميات، رحل عمو الذي تجادلت وابنته "هلا" يوماً حول نقطة عجيبة: من أكبر والدي أم والدها! وخضنا نقاشاً أمام جمع من فلسطينيي الشتات معتقدين أن الفائزة هي من تثبت أن والدها هو الأكبر. هذا هو هُمُّ الصغار؛ كل ما نريده هو أن نكبر، ونرى العالم بشكل مختلف، كنا نقف على الكرسي أو المنضدة لنعلن أننا كبار، وحين يسلبنا الكبر شخصاً ما، نود لو نحطم ذلك الكرسي. قلت لابنته: والدي هو الأكبر لأن شعره أبيض. فأجابت: بل والدي فأسنانه مخلعة. قلت: والدي وجهه أجعد. فقامت وبحثت عن عكازة وقالت لي أنها لوالدها العجوز... ضحك الجميع وقتها!
"هلا" ترغب اليوم أن يعود الأب لتقنعني أنه أصغر وأنا أيضاً أرغب أن أقنعها بأن والدي هو الأصغر في العالم. لكن الحياة ليست عمراً ولا شيباً ولا عكازاً، الحياة هي الحقيقة التي علينا أن نعيشهاً، فلا العمر ولا قوة العافية تمنع ملاك الموت من القدوم، وهي السيرة الطيبة وأهالي غزة الذين خرجوا في جنازة المناضل الدكتور نصار، ومنهم من لا يعرفه لكنه استنشق رائحة المحبة من حوله، وأولئك الذين لم يستطيعوا الخروج وقدموا واجب العزاء من خارج حدود الحصار، هذه السيرة وحدها تحطم مع الوقت أسطورة ألم الفقدان.
عمي؛ كنت كلما تراني تمسد بيدك الرقيقة جبيني وشعري، فتمسح وجع الغربة عني دون أن تعلم، تمسح آلام الوطن "مؤقتاً"، واليوم من يمسح بغيابك كل هذا الألم من حولنا؟ ومن يبدد هذا السحاب الذي بيننا، ومن يحول هذا الفراغ بين السماء والأرض إلى نسيم عليل؟ هل نعيش تحت سحابة الصيف، أم مطر الربيع؟ ولماذا غادرت حين بدأت للتو تتفتح ورود الجوري والقرنفل والياسمين؟ لقد فاح عطرها اليوم.. فهل هذا هو وقت وداعك؟ وهل على الوداع أن يكون جميلاً أيضاً.. مثلك؟
في أيلول ولد.. وفي نيسان رحل، حياته هي ذكرى تتعلق بكل مراحل الثورة الحقيقية نحو التحرير، لأجل كل هذا وحين عرفت بهذا الموت كتبت منذ اللحظة الأولى لعمي الحبيب عبد الكريم، معلنة رفضي للحزن فقلت:
إلى زوجته: عمو سيبقى ندىً صباحي جميل.. فلا تحزني
ابنته هلا: ستهل دوما ابتسامته... فلا تحزني
ابنه عامر: قلوبنا كلها عامرة به.. فلا تحزن
ابنه البكر محمد: سيبقى عمي "البكر" وسيبقى حبه بكراً أصيلاً.. فلا تحزن
والحقيقة أنه مهما ترددت آيات المواساة فإن الموت قاسٍ، لكن العم نصار يستحق أن ترتسم ذكراه بسمة على الشفاه، ورغم غيوم الفقدان وتلبدها إلا أنها حتماً مجرد غيوم.. وتبقى الروح سماءً تظللنا جميعاً. سلامٌ عليك هناك.