بين الرفض المطلق ... والتسليم بحقائق
قبل ان تصل اسرائيل الى "اوسلو" وتسلم بأبرز الحقائق الفلسطينية، فإن تاريخها السياسي، بخطابه الاعلامي والدبلوماسي، لم يكن سوى خطاب الرفض المطلق لفلسطين وطنا وشعبا وقضية، حقائق كثيرة في هذا السياق، حاولت اسرائيل تجاهلها والقفز عنها، وقبل ذلك حاولت طمسها بسياسات العنف والخديعة معا، كانت تقول انه لا وجود للفلسطينيين و "هؤلاء" ليسوا سوى عرب لهم اكثر من عشرين دولة في المحيط بوسعهم ان يعيشوا فيها ...!! والفرية الكبرى كما نعرف، والتي روجها زعماء الحركة الصهيونية مثل "اسرائيل زانجويل" و "ثيودور هيرتزيل"، كانت تقول ان فلسطين ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض، وفي هذا الشعار لم تكن هناك اية حقيقة ولا من اي مستوى ونوع، لأن فلسطين كانت قائمة بشعبها، ولأن اليهود كانوا مواطنين في بلادهم التي جاءوا منها في مراكب مشروع الحركة الصهيونية، اذ ان اليهودية كدين ليست قومية ولا بأي حال من الاحوال، وقد حاول اليهود الغربيون "الاشكناز" وما زالوا يحاولون ان يجعلوا اليهودية كذلك، لكن مع تنامي الاحزاب الدينية في اسرائيل بات السؤال من هو اليهودي سؤالا فقهيا وليس قوميا، على هذا النحو او ذاك الذي ما زالت معه هوية دولة اسرائيل دون ملامح واضحة ولا بأي اتجاه، سوى اتجاه التطرف والعنصرية، وهذا اتجاه لا يشق في المحصلة سوى طريق الهروب من الحقائق، لا طريق مواجهتها والتعامل معها، واهمها بالطبع حقائق فلسطين البشرية والجغرافية والحقوقية والسياسية، التي تقول بمنتهى الوضوح والبساطة، انه لا أمن ولا استقرار لاسرئيل، دون دولة فلسطين الحرة المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية وبحل عادل لقضية اللاجئين وفق القرار الاممي 181.
في "اوسلو" جاءت اسرائيل لتعترف بكلمة فلسطين، بعد ان حاولت كثيرا بكل السياسات العنيفة التي نعرف، شطب هذه الكلمة من كل القواميس التي يعرفها العالم، وهذه كانت اولى الحقائق التي تسلم بها اسرائيل بعد رفض مطلق، وثمة حقائق اخرى عديدة توالى التسليم الاسرائيلي بها، غير ان هذه الدولة خاصة بعد ان بات اليمين القومي المتطرف يتحكم فيها، لا تريد الاستفادة من تجربة التسليم بالحقائق، ولا تسعى لأن تدرك وان تعترف ان التاريخ لا يمكن ان يعود الى الوراء، ولا تراجع اليوم وتتفحص ما قاله الذي يصفونه بـ "نبي اسرائيل" ديفيد بن غوريون، بضرورة الانسحاب من الضفة الغربية، بعد حرب حزيران عام سبعة وستين، لأن بقاء اسرائيل محتلة لهذه الارض سيوحد الفلسطينيين، ويذكر التاريخ هنا ان جيش الاحتلال الاسرائيلي جاء بعد انتهاء الحرب بعدد كبير من الباصات الى القدس لتسهيل هجرة الفلسطينيين الى خارج وطنهم، لكن هذه الباصات ظل اغلبها دون ركاب، فلم تتكرر نكبة التهجير التي كانت عام ثمانية واربعين.
نعم التاريخ لا يعود الى الوراء، واسرائيل التي كانت تصف الفدائيين بالمخربين جلست معهم على طاولة المفاوضات في"اوسلو" وتبادلت واياهم اعترافات تاريخية. ولن يفيد اسرائيل كثيرا ان تعود الى منهج وسياسة الرفض المطلق بشعارات الاحزاب القومية المتطرفة، التي تحاول احياء تراث والد رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو حرفيا، والذي قامت عليه سياسة الرفض المطلق وقومنة الدولة، وهي القومنة التي دفعت برئيس الحكومة نتنياهو الى دعوة اليهود الفرنسيين الى "العودة الى وطنهم" في تكريس ايديولوجي للاسامية، والتعبير لكاتبة صحفية ايطالية يهودية "بربارا سيانيلي" التي رفضت قبل هذه الدعوة، ما يسميه نتنياهو بحق العودة، لانها ايطالية الوطنية ويهودية الدين.
ومثل هذه الصحفية الايطالية كثيرون، وحتى داخل المجتمع الاسرائيلي الذي باتت جماعات منه تقصد مقر الرئاسة في رام الله، ترجو في المعنى البعيد لحضورها الى مقر الرئيس ابو مازن، واللقاء معه، نوعا من طوق النجاة وهي تؤكد انحيازها لضرورة السلام بين الشعبين في اطار حل الدولتين، ونعني طوق نجاة من الفكرة العنصرية المتطرفة، وبذور الفاشية التي تزرعها القوى اليمينية المتطرفة وهذا نوع آخر من التسليم الاسرائيلي، وان كان في اطار قوى اجتماعية وسياسية محددة، بحقيقة فلسطين القادرة على تحقيق الامن والاستقرار للجميع لحظة تحقيق السلام العادل لها بدولتها الحرة المستقلة.
وفي هذا الاطار فإن حرص الرئيس ابو مازن على الحوار مع المجتمع الاسرائيلي بكل مكوناته ودون تمييز، وهو يستقبل جماعات منه، انما هو حرص نابع من ضرورة تكريس المزيد من الحقائق الفلسطينية، ودفع الحوار ان يكون منتجا لحراك فعال داخل المجتمع الاسرائيلي بكل قواه السياسية للتسليم بهذه الحقائق، على نحو ايجابي ولغاية واحدة ووحيدة وهي تحقيق السلام العادل الكفيل بتحقيق الامن والاستقرار في هذه المنطقة.
في التاريخ لا حياة لرفض مطلق، واذا كانت اسرائيل راوغت اليوم اجتماع باريس التمهيدي للمؤتمر الدولي للسلام وفق المبادرة الفرنسية، برفضها لصياغات واضحة لبيانه، تجعل من المؤتمر الدولي فرصة حقيقية لتحقيق السلام، فانها سلمت بحقيقة الحراك الذاهب الى هذا المؤتمر، وبيان الاجتماع التمهيدي الذي وصف بالطري بالنسبة لاسرائيل ليس دليلا على نجاح سياسة الرفض الاسرائيلية، بقدر ما هو دليل على ان الاعتراف بالحقائق لا يتأتى دفعة واحدة بل خطوة وراء خطوة، وبيانا بعد بيان، وموقفا بعد موقف، وعلى اسرائيل ذاتها ان تراجع سياستها في الرفض المطلق، لترى ما الذي فعلته هذه السياسة، وفلسطين تتقدم كل يوم نحو تكريس المزيد من حقائقها وقد اطاحت بالكثير من اهداف سياسة الرفض المطلق الاسرائيلية.
كلمة الحياة الجديدة - رئيس التحرير