حماس في تسع سنين - محمد حجازي
يعيش الوضع الفلسطيني أزمات متعددة ومتشابكة، فبعد أكثر من أربعة عقود على تأسيسه يعيش المشروع الوطني مأزقا حقيقيا بل تهديدا مصيريا، ليس فقط بفعل طبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي و جوهر حركته الصهيونية وأهدافها، بل بسبب تحديات من داخل الحالة السياسية الفلسطينية ومن داخل المشروع الوطني ذاته.
أن يأتي الخطر والتهديد من إسرائيل وسياستها الاستعمارية والاستيطانية أمر مفهوم لأن إسرائيل تدرك أن إنجاز المشروع الوطني على أرض فلسطين سيكون على حساب المشروع الصهيوني وتطلعاته التوسعية، لكن ما لا يقل خطورة عن ذلك هو التدمير الذاتي للمشروع الوطني الذي تمارسه حركة حماس.
تسع سنوات مرت على حكم حماس في قطاع غزة، شهدت خلالها الحالة الفلسطينية تحديات كبيرة، سواء في الأداء الرسمي للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أو في أداء كل فصائل العمل الوطني، توتر في العلاقات الداخلية وتراجع العمل الجماعي التشاركي الذي ميز العمل الوطني لسنوات طويلة مضت، ولكن ما يفوق خطر هذا التراجع، هو المتغير الكبير الذي حدث في الحياة السياسية الفلسطينية، عندما خرجت حركة حماس عن أصول اللعبة وقامت بالسيطرة على قطاع غزة بالقوة المسلحة تاريخ 14 حزيران 2007، وخلقت لنفسها سلطة ودولة تمت صناعتها برعاية حركة الإخوان المسلمين ودولتي قطر وتركيا، تتحدى فيها منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية على جبهة التمثيل السياسي للفلسطينيين.
مرّت السنوات التسع في مشهد يعجز الإنسان عن وصفه، حيث كانت النتائج كارثية، فتم خدش صورة الفلسطيني الذي كان يشكل أيقونة نضالية ناصعة لكل الشعوب العربية والعالمية، فتم تحويله من شعب مكافح ومناضل إلى شعب يعيش فقط على الإغاثة الدولية دون مضامين سياسية تتعلق بالحرية والاستقلال.
لا أريد أن أتحدث عن نتائج الانقسام وسيطرة حماس على قطاع غزة، فلقد كتب الكثير من المقالات والدراسات وكان لي إسهامات متواضعة في هذا الشأن، بل عن ما آلت إليه حماس في حكمها وشكل هذا الحكم، لا يختلف أحد على أن إسرائيل هي من شجعت الانقسام بل ورعته ومهدت الطريق أمام حماس للسيطرة على القطاع بهدف إخراج قطاع غزة من غلافها كما قالت مرارا وتكرارا، إلى جانب شق وحدة الفلسطينيين والمس بتمثيلهم السياسي كجماعة سياسية واحدة وصولا إلى ضرب وتخريب حل الدولة الفلسطينية الذي داست عليه الجرافات الإسرائيلية في عمليات التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ومدينة القدس المعزولة تماما عن محيطها الفلسطيني، هذا المشهد استكمل في صناعة دولة غزة، جرت محاولات عديدة لجعل الانقسام هو الحل الأمثل للقضية الفلسطينية، "دولة في غزة وحكم ذاتي محدود الصلاحيات للسكان فقط وليس للأرض في الضفة الغربية دون القدس، يكون فيه الحكم للبلديات والإدارة المحلية "، هكذا رسمت إسرائيل مستقبل الفلسطينيين.
تلقت حماس دعما ماليا وسياسيا من حلفائها في المنطقة، للحفاظ على حكمها في قطاع غزة باعتباره أول تجربة لحكم الإخوان في المنطقة "درة التاج"، فأعادت تشكيل الوزارات والمؤسسات الرسمية الفلسطينية وأنشأت جهازا إداريا وماليا شديد الانضباط، وأجهزة أمنية قوية، ووظفت لذلك عشرات الآلاف من أعضائها ومقربيها لإدارة القطاع في مختلف المجالات. الأرقام الرسمية تقول إن العدد وصل إلى حوالي أربعين ألف موظف، إلى جانب أن الحركة قامت بدعوة أعضائها في المجلس التشريعي، وشكلوا مجلسا حمساويا خالصا، أصدر العديد من القوانين التشريعية التي كان يصادق عليها رئيس مجلس الوزراء السابق السيد إسماعيل هنية باعتباره أيضا المسؤول الأول عن الحركة في القطاع وهو نائب رئيس المكتب السياسي.
هناك أيضا أعضاء مجلس الشورى للحركة في القطاع الذين جرى انتخابهم من خلال المؤتمرات الحزبية، وهو بمثابة المجلس الذي يتخذ القرارات الكبرى وخاصة في مجال السياسة، أما الجهاز الذي تعول عليه الحركة بشكل كبير هو جهاز الضرائب أو الجباية المالية، فقد أنشأت الحركة جهازا إداريا وماليا شديد الفعالية والتنظيم ونجح هذا الجهاز في ابتكار العديد من طرق الجباية، بحيث وصل إلى مرحلة لم يعد في قطاع غزة شيء إلا وعليه ضريبة.
خلال السنوات التسع، نجحت حماس في الوصول إلى مرحلة التكيف في فاتورة مصروفاتها الشهرية ومقدار الجباية المالية. "هناك أرقام غير دقيقة يتم ترديدها تتحدث عن بضعة عشرات من الملايين بالدولار"، المهم في هذا أن التكيف في الموازنات المالية هو أحد أهم الأسباب لتلكؤ الحركة باتجاه إنهاء الانقسام، واستعادة الحياة الديمقراطية، أي أن هناك دائما سعي لدى الحركة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي في الجانب المالي، دون أي مراعات لحاجات للناس ومدى سوء أوضاعهم، هناك سخط جماهيري واسع من سياسة الضرائب التي تتبعها حماس، مع التنويه أن سكان القطاع تفرض عليهم الضرائب من جهتين حماس والسلطة الوطنية. ويشار في هذا المجال إلى أن موازنات الحركة المالية التي تحصل عليها من الضرائب لا تخضع للمساءلة والمحاسبة المالية، وفي أغلب الأحيان غير معلومة للجمهور، وهي مخصصة بالإجمال للمصاريف التشغيلية ورواتب الحركة، دون تقديم أي موازنات للصحة أو التعليم أو البلديات، أو في البنية التحتية والماء والكهرباء.
في السنوات التسع الماضية تصدت الحركة لأي نشاط يتحدى سلطتها في القطاع، ليس فقط النشاطات الجماهيرية لإنهاء الانقسام بل تعدى ذلك أيضا إلى خصومها الذين ينتمون إلى نفس المدرسة الفكرية، الفصائل السلفية في القطاع، ولكن يسجل للحركة أنها نجحت في تقويض كل النشاطات والتحركات الفصائلية والشبابية التي كانت تهدف لإنهاء الانقسام، سواء باستخدام العنف أو الاعتقال الأمني، أو التضليل السياسي والخطاب التمويهي الذي يتحدث باستمرار عن أهمية المصالحة وإنهاء الانقسام، والوعود المستمرة، وهنا أيضا نستطيع القول إن حماس تكيفت مع منسوب ومستوى المطالبات المستمرة لإنهاء الانقسام وضغط السلفيين. ولا ننسى في هذا الإطار محاولات الحركة من فرض رؤيتها الاجتماعية على الفلسطينيين في القطاع بالقوة حيث عززت ذلك بتعديل الكثير من القوانين، في مخالفة واضحة للقانون الأساسي الفلسطيني ووثيقة الاستقلال.
وإذا كانت حماس قد نجحت في بناء وإدارة دولة غزة في الجانب الوظيفي والإداري و المالي، فإنها فشلت في أن تكون بديلا تمثيليا لمنظمة التحرير، وفشلت في فك الحصار وبقيت معزولة في الإقليم، لا أحد يعترف فيها كممثل للفلسطينيين، تركيا وقطر تتعاملان معها كفصيل سياسي فقط، حاولت الحركة اللعب على تناقضات الإقليم ولكنها فشلت والنتائج كانت كارثية، إلى درجت أنها سمحت لدول بالتدخل بالشأن الداخلي الفلسطيني بشكل غير مسبوق.
حاول حلفاء حماس اختزال القضية الفلسطينية بقطاع غزة واستخدموا عبارات مثل شعب غزة، إلى أن وصل الأمر بحماس أن أصبح خطابها السياسي يغلب عليه قضايا فك الحصار وإنشاء الميناء والمطار، في غياب واضح لطبيعة الصراع الحقيقي للفلسطينيين في هذه المرحلة التحررية خاصة في القدس وباقي الضفة الغربية التي تتعرض وبشكل يومي، لجرائم الاحتلال ومستوطنيه ومصادرة الأراضي لبناء مزيد من المستوطنات، لخلق واقع على الأرض يقوض حل الدولتين.
تعرض قطاع غزة لثلاثة حروب إسرائيلية، سقط خلالها آلاف الشهداء، وعشرات الآلاف من البيوت والورش والأراضي الزراعية دمرت، كانت حرب إبادة، دون أدنى شك فإن كتائب القسام والكتائب المسلحة لمختلف الفصائل، قاتلت بشكل بطولي وكان هناك الكثير من المآثر البطولية خلال الحرب، رغم التفوق الإسرائيلي الهائل الذي لا يمكن مقارنته بإمكانيات المقاومة المتاحة.
نجحت المقاومة كأداء وفعل، ولكن في المستوى السياسي فشلنا في استثمار هذا الصمود بنتائج سياسية معقولة وفرض شروط المقاومة كما سميت في حينها.
على صعيد آخر، فشلت حماس أيضا في إغاثة منكوبي الحرب والمهجرين، لم تضع في حسبانها توفير الحد الأدنى لحاجات الناس الأساسية في وقت الحرب ولولا وكالة الغوث (الأونروا) لكان الوضع أكثر مأساويا، حتى في مجال إعادة الإعمار كانت مطالبات المانحين وشرطهم للتمويل هو أن تتخلى حماس عن سطرتها على القطاع وتسلم المعابر والسماح لحكومة الوفاق الوطني من بسط سيطرتها على القطاع، الأمر الذي لم يحدث إلى الآن.
في السنوات التسع العجاف التي مرت، يقف الفلسطينيون على أعتاب مرحلة جديدة شديدة الالتباس والخطورة، في ظل انعدام أي أفق ومستقبل للقضية الفلسطينية، يبقى الخيار الوحيد والمدخل لتصويب نضالنا هو بوحدتنا السياسية كجماعة سياسية واحدة تتطلع للحرية وبناء الدولة الفلسطينية.
دون ذلك لن ننجح جميعنا إذا كنا مشتتين، فما زلنا شعب يرزح تحت الاحتلال، فلنتوحد لحماية مشروعنا التحرري، وبانتظار أن تقوم حركة حماس بمراجعة سياسية عامة لمجمل سياساتها، سواء من الوطنية الفلسطينية أو من مبدأ الشراكة السياسية، وقبل ذلك من طبيعة المجتمع الذي نسعى جميعا لبنائه.