نحتاج إلى صوم على الصعيد الفكري - منير فاشه
عشنا شهر الصوم، شهر رمضان المبارك الذي سنودعه بعد قليل. يلهمنا هذا الشهر في هذا العصر أن نصوم أيضا مدة شهر (كبداية نأمل أن تستمر) عن استهلاك كلمات مصنّعة مصدرها الجماعة الأورو-أميركية كمرجع أو أساس أو معيار، فهي كلمات صادرة عن مؤسسات ومهنيين وخبراء ولا تنبع معانيها من الحياة. يلهمنا هذا الشهر (الذي يتزامن هذه السنة مع التوجيهي) للصوم عن كلمات تؤذينا وتعمينا عن التضامن مع ضحاياها (والتي يمثّل اختراعُ إنسان فاشل بشهادة رسمية مثالا صارخا لها)، وبدلا منها نستعيد كلمات فيها غذاء للعقل والقلب والروح والعلاقات، مثل عافية وحكمة. سأختار مرة أخرى الرياضيات لتوضيح ما أقوله.
هدف الرياضة البدنية واضح: عافية الجسم عبر حماية وتقوية وتغذية مناعته الداخلية. غريب وغريب جدا أننا لا نتعامل مع الرياضة العقلية بالمعنى نفسه بحيث يكون هدفها حماية وتقوية وتغذية عافية العقل ومناعته الداخلية إذ، على العكس، ما تفعله الرياضيات الرسمية (في المدارس والجامعات) هو إضعاف مناعة العقل، حيث تجعل الناجحين والأوائل يفتخرون بعبوديتهم دون وعي ذلك [أنظر مقالي في هذه الزاوية يوم 3 نيسان]، وحيث تجعل الفاشلين يشعرون بدونية إذ لم يحالفهم الحظ للتفاخر بالعبودية! تلعب الرياضيات دورا رئيسيا في إذلال الطالب عن طريق تحديد قيمته برقم، وعن طريق إيهامه بأن المنطق الثنائي (الذي يشكل سلاح سيطرة على العقول في يد الجماعة الأورو-أميركية) هو منطق الحياة بينما في الواقع هو منطق الأجهزة والآلات وأنجع أداة للسيطرة. المنطق الثنائي يتوافق مع إذلال التلميذ والمعلم، ما دعا السكاكيني الى أن يُنْشِئ مدرسة عام 1909 رفض أن يستعمل فيها أرقاما لقياس قيمة الطالب. سيأتي يوم نصحو فيه لصرخة السكاكيني بأن خلاصنا من العبودية يتطلب أن ننزع أحذية الغير ونمشي حفاة حيث يلمس أسفل أقدامنا روح الأرض، وتتناغم عقولنا مع حكمة الطبيعة وحكمة الحضارات الحية، كما يتطلب الشفاء من نمط الاستهلاك في العيش. فكرة الصيام عن كلمات مصنّعة لمدة شهر هي بالضبط لتذكيرنا بهذا والعيش وفق ما فيه عافيتنا. الرياضيات المدرسية والجامعية لا تساعد الإنسان على الفهم ولا تربطه بالطبيعة ولا ترتبط بقيمة نفعية (أي العيش وفق حكمة وعافية) بل بقيمة تبادلية في سوق الاستهلاك (حيث ممكن أن تكون مفيدة في تحسين "القفص" لكن تمزّق الإنسان والمجتمع). إلى جانب هذا، يُهْمَل جوهر الرياضيات المتمثل برسم صور في الذهن تعكس الواقع، وبملاحظة وجه الشبه بين ظاهرتين تبدوان مختلفتين على السطح لكن تتشابهان في منطقهما الخفي عن الحواس.
عافية العقل ترتبط بالحكمة. لذا أي كلمة لا تتوافق في معناها واستعمالها مع الحكمة ضروري (على الأقل) الحذر منها والتفكر في عواقبها. نستعمل كلمة "تمارين" في الرياضة البدنية كما نستعملها في الكتب المقررة في الرياضيات المدرسية، دون أن ننتبه إلى أن استعمالها في الناحية العقلية لا يتطابق مع استعمالها في الناحية الجسمية، إذ أنها تشير في كتب الرياضيات عادة إلى اكتساب مهارات آلية دون أن يرافقها فَهْم للحياة.
أدرك جيدا صعوبة تغيير النظام القائم لكن نستطيع أن نتعامل معه مثلما نتعامل مع التصريح الإسرائيلي كوسيلة لعبور الجسر إلى الأردن، نضطر إلى هذا حتى ينتهي احتلال الأرض. الشهادة المدرسية والجامعية هي بمثابة تصاريح تفتح لقلة من الناس أبوابا لا أكثر (بينما تغلق الأبواب أمام الأغلبية الساحقة)؛ نضطر لها حتى ينتهي احتلال العقول. ويعني هذا ضرورة مقاومة احتلال العقول والإدراك مثل مقاومة الاحتلال العسكري. جدير بنا أن نتذكّر أن الاحتلالين جاءا من نفس المصدر: بريطانيا. نعي الأول ونقاومه بينما لا نعي الثاني بل نحتضنه. من هنا اقتراحي في هذا المقال أن نصوم مدة شهر عن استعمال أي كلمة ترتبط بالاحتلال العقلي كمعيار ومرجع. أرى في شهر الصوم على الصعيد الفكري أمرا ضروريا لاستعادة عافية العقل والإدراك وبالتالي عافية التعامل والعلاقات. في هذا الشهر، نستعيد التعددية كصفة أساسية في شتى نواحي الحياة، وبوجه خاص التعددية بالنسبة لوسيط التعلم ولمصدر قيمة المرء. نحن محظوظون حضاريا لأن البديل للفكر الأحادي في الحالتين موجود لدينا منذ آلاف السنين: المجاورة كوسيط للتعلم، وما يحسنه الشخص كمصدر قيمته. أي أن البوصلة التي نحتاجها لاستعادة عافية العقل موجودة لدينا. نحتاج لوقت وجهد كبيرين، لكن على الأقل البوصلة موجودة وعلينا أن نحاول العيش وفقها بصبر وأمل وإيمان، فهي ملاذنا. يمكن، مثلا، الصوم طوال هذا الشهر عن استعمال أي كلمة تمزَق الإنسان والمجتمع، والصوم عن كل ما يعمّق الاعتقاد بوجود مسار أحادي عالمي للتعلم والتقدم، والصوم عن استعمال المنطق الثنائي بالحياة والتعامل مع الإنسان كفرد (بل ك"خلطة" مكونة من علاقات، أي النظر إليه على أنه كامل بشكل فريد في علاقات حية متحولة باستمرار).
أخيرا، أقترح أن يحاول كل شخص الصوم مدة شهر عن مأكولات مصنعة وعن كلمات مصنعة... سيكون شهرا مباركا.