ترامب.. والنقاء "الانجلوساكسوني (1).. بقلم: عمار جمهور
كان لفوز المرشح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب تأثير صادم على العالم كله بما فيه الأميركيّون الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية تعتبر الأولى في تاريخ الديمقراطية الأميركية، فالبرغم من حصول منافسته من الحزب الديموقراطي هيلاري كلينتون على عدد أكبر من الأصوات الانتخابية، إلا أن ترامب فاز بأغلبية المجمعات الانتخابية، بسبب النظام الانتخابي الأميركي الذي يعتبر الأعقد في العالم بأسره، وكان فوزه مخالفا لأغلبية استطلاعات الرأي التي رجح معظمها فوز كلينتون، ولفوز ترامب في الانتخابات دلالات سياسية وفلسفية مهمة لا بد من تشخيصها لمحاولة فهم واقع انتخابه ودوافعها.
وتباينت ردود الفعل العالمية التي انقسمت ما بين الحذر والترقب لمرحلة ما بعد الانتخابات، أملا في تغير بعض الأفكار التي دعا إليها الرئيس المنتخب خلال حملته الانتخابية، خاصة فيما يتعلق بموقفه من حلف الأطلسي وروسيا، وسياساته تجاه المكسيك والهجرة، وسياسته الخارجية تجاه الشرق الأوسط خاصة فيما يتعلق بما يسمى الحرب الأميركية على الإرهاب، ومواقفه من تسوية الصراع العربي الإسرائيلي.
ويعزى فوز ترامب الى الفلسفة الفكرية للحزب الجمهوري ذاته، المرتبطة بالإيمان العميق والراسخ، الرامي لإعادة إحياء الانجلوساكسونية وضرورة نقائها من المتطفلين الأوروبيين والصينيين والمكسيكيين والمسلمين، الذين باتوا يشكلون تهديدا حقيقيا للعرق الأميركي الأصلي، بات الأميركي الأبيض يرى أنه صاحب الحق في البلاد، متناسياً أنه كان في الأصل مهاجرا، واستوطن البلاد على حساب من سماهم بالهنود الحمر. وهنا نجد أن غالبية الاميركيين يعتبرون أنفسهم "انجلوساكسونيين انقياء"، ويرفضون فكرة التعدد العرقي لكي لا تتم سرقة "بلادهم" منهم من قبل المهاجرين، وخوفا من أن يصبح العرق الأبيض أقلية مجتمعية في المستقبل القريب. وبات غضبهم هولاء البيض ينصب على كل شيء فكان لتصريحات وشعارات ترامب الانتخابية صدى واسع في صفوف "الأنقياء"، ما ساهم في رفع شعبيته بينهم إلى حد كبير، لأنها مبينة بالأساس على الكره والخوف.
وباستعراض التاريخ الألماني، فإن التخوف الذي تبديه أوروبا بقيادة ألمانيا مبررٌ إلى حد ما، حيث كانت ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي في قمة الحضارة الغربية، وشكلت نموذجا ديمقراطيا يحتذى به، حتى وصول هتلر للحكم، وإعادة الحضارة الغربية خلال عشر سنوات إلى أدنى مستوياتها، ورغم عدم وجود تطابق حقيقي بين التجربتين، إلا أن هناك تشابهات حقيقية لا يمكن إغفالها لا سيما على مستوى الخطاب السياسي والإعلامي المبني على الكراهية، وخاصة إذا ما يمكن اليمين الفرنسي الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة في ظل تراجع شعبية الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، واستلهام الأمل من فوز ترامب لتصاعد نفوذ اليمين الفرنسي واحتمالية فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما أن سياسة البيروقراطيين الأوروبيين تجاه اليونان وإهانتهم لها، قد تعيد إلى الواجهة صعود الحزب الفاشي مجدداً في أوروبا الأمر، الذي سيعني بالضرورة التمهيد لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية.
وعبرت القمة الأخيرة لقادة الاتحاد الأوروبي عن قلقها تجاه تنامي ظاهرة اليمين المسيحي المتمثل بفوز ترامب وأثره على مستقبل الاتحاد الأوروبي، لا سيما في علاقته مع الولايات المتحدة المتمثلة بالعنوان العسكري المتمثل بحلف الأطلسي والتعاون العسكري في ظل التوترات السياسية والعسكرية مع روسيا، ورؤية ترامب المختلفة عن السياسة المتبعة خلال عقود مع الاتحاد الأوروبي، ما دفع أوباما خلال زيارته لأوروبا لمشاطرة قلقه من سياسة ترامب التي أعلن عنها في حملته الانتخابية، محاولاً الدفاع عن مستقبل العولمة القائم على التعاون، وإعطاء إشارات إلى أهمية تقاسم المنفعة السياسية والاقتصادية القائمة على اساس المصالح المشتركة، وعدم الانغماس التنافسي في المرحلة المقبلة ولا سيما المنافسة الأوروبية الأميركية.
المرحلة التاريخية التي يحاول ترامب قيادتها، مختلفة اختلافا فلسفيا عن المرحلة التي أسسها ودعا إليها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي استند إلى فلسفة جون كيندي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي ارتكزت اجتماعيا وسياسياً على التنوع العرقي وأثره في تنمية واستمرار روح الإبداع والتميز لدى الأميركيين معولاً بالأساس على المهاجرين الجدد والطبقات، التي كانت تعتبر مهمشة في المجتمع الأميركي ولا سيما ذوي الأصول الأفريقية واللاتيينة والصينية والإسلامية، التي يرى فيها ترامب وأنصاره من يصنفون أنفسهم بأنهم من "الانجلوساكسونية النقية" تهديدا مباشراعلى حياتهم بكافة مناحيها ومجالاتها.
واستنادا للنظرية البنائية في العلاقات الدولية، التي تعتبر ان دور المؤسسات يعتبر الأهم والاعمق أثرا، مقارنة مع دور الأفراد، وخاصة فيما يتعلق برسم السياسات الداخلية والخارجية، إلا فإن ترامب لا يعبر عن شخصه، وإنما عن اتجاهات فلسفية وفكرية وسياسية أمريكية، ستفرض اجنداتها وسياساتها، من خلاله بصفته ترامب الذي يعتبر رأس الحربة التغييرية خلال الفترة المقبلة وبما يتماشى مع طموحات وتطلعات "الانجلوساكسونيين الأنقياء".
وما سيحدثه ترامب من تغييرات، يعبر عن تطلعات وطموحات شريحة أمريكية، من حيث الحفاظ على مصالحها، وهو ما سيقودها إلى تغيرات في أهداف هذه المؤسسات لتنفيذ خططها العامة، تجاه رزمة من القضايا السياساتية المفصلية، فما يدعو إليه ترامب يعبر عن انقلاب جوهري مرتكز على فلسفة الحزب الجمهوري العقائدية، المختلفة جوهريا، عما دعا إليه أوباما المستند إلى فلسفة الديمقراطيين المرتكزة بالأساس على الطبقة العاملة غير العقائدية دينيا على الأقل.