الشهيد محمد محمود عبد الدايم - عيسى عبد الحفيظ
ينحدر من قرية عنبتا قضاء طولكرم ومن مواليدها حيث رأت عيناه النور في الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني عام 1960.
كان في السابعة عندما رأى جنود الاحتلال على دباباتهم يجولون شوارع طولكرم وقريته الوادعة عنبتا، لم تستطع ذاكرة الطفولة نسيان ما حدث واطبقت على تلك الصورة الاستفزازية لجيش الاحتلال. الطفل لا يستوعب ما حدث ولكن الذاكرة لا تمحى وتختزن صورا لا تمحوها الأيام. شب محمد وبدأ يستوعب ما حدث، كانت ذاكرته تحفزه كل يوم للقيام بأمر ما يترجم رفضه للأمر الواقع المتمثل في احتلال يريد كسر شوكة شعب بأكمله بالبطش والنار.
كان بامكان الشهيد ان يستمر بحياته المعتادة سعيدا عاملا منتجا ذا دخل لا بأس به، فهو خريج معهد البولتكنيك من العاصمة الاردنية عمان وهو متزوج وحياته مستقرة ويعمل مدرسا في الرام وكما يقال لا ينقصه شيء على الصعيد المالي ولكن الحياد ليس سكنا وعائلة وعملا فحسب، قد تبدو كذلك لمن يعيشون في أوطانهم ولكنها بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين ليست كذلك.
نحن أصحاب قضية مقدسة تم السطو علينا تاريخيا وتعرضنا لمؤامرة دولية كانت أكبر من حجمنا وقدراتنا، بل واكبر من قدرات كل الدول العربية مجتمعة، مؤامرة لم يحدث مثلها في التاريخ ان يجري اقتلاع شعب كامل من أرضه ويتم زرع شعب آخر تحت أسطورة لا أساس لها من الصحة.
كان قدر محمد ان يعود بعد انهاء دراسته الجامعية في الاردن ويحصل على عمل في مدرسة اليتيم العربي في الرام، الأمر الذي أرغمه على السكن هناك. ربطته بمكان اقامته الجديد علاقات اجتماعية ووطنية وصداقة ما جعله جزءا من الواقع الجديد في الرام بكل ما يحمله ذلك من أخطار.
هبت الجماهير في الانتفاضة الاولى عام 1987 لتعلن للعالم أجمع ولسلطة الاحتلال الرفض التام للأمر الواقع فكانت حدثا مميزا في سيرة نضال الشعب الفلسطيني، فهل كان باستطاعة الشهيد محمد ان ينأى بنفسه عن هكذا حدث وهو الذي اختزنت ذاكرته هزيمة عام 1967، دخل فورا في المعمعة وقرر ان يواجه هذه المرة عندما خانته الفرصة الأولى وهو لم يكن قد تجاوز السابعة من عمره!
كان من عمله ايضا غير المواجهة النهارية ان يساعد الآخرين ليلا، فبدأ بتوزيع المساعدات على سكان مخيم قلنديا الأمر الذي اعتبرته سلطات الاحتلال (جريمة كبرى)، فتم اعتقاله وبدلا من زجه في السجن ومثوله أمام القاضي للمحاكمة بهذه التهمة (الخطيرة جدا) اعتدى الجنود الذين امتلأت نفسياتهم المعقدة بأمراض تلمودية عليه بالضرب المبرح في كل أنحاء جسده، الأمر الذي أدى الى اصابته بنزيف داخلي وفي قلبه تحديدا وبعد نقله الى البيت لفظ أنفاسه الأخيرة هناك وانضم الى القافلة الشهيرة، قافلة شهداء فلسطين.
عصفور طار من عنبتا يوما ما ليذهب الى عمان ومن ثم الى ضاحية الرام ليتحول الى صقر يناطح السماء معلنا رفضه للأمر الواقع الاحتلالي الهمجي وليسقط اخيرا شعلة وقادة على تاج الوطن الذي أغمض عينيه وهو لا يفارق مخيلته منذ ان كان طفلا يلهو بين بساتين قرية عنبتا.