حيفا... يا أريج الياسمين وضياء السماء - موفق مطر
ها أنا أحمل آمال والدي الحموي السوري ووالدتي ابنة خاله المولودة في حيفا للعيش في فلسطين التي ظلت قصة حبهما وعشقهما وزواجهما، وشبابهما، وكفاحه، والسيرة الأجمل على لسانه حتى آخر يوم من عمره.
لم استطع زيارة حيفا مسقط رأس والدتي السورية من جدتي اللبنانية الأصل حتى اللحظة، لكني سأبقى كالباحث عن سر هذا العشق الخالد بين ابي وامي وهذه العروس المتربعة على تاج شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
لن يصدأ مفتاح ذاكرتنا، لن يأكله اكسيد الحوامض المرة السامة القاتلة، لن يضيع، لن ينكسر، فمفاتيح الأوطان عندنا حب وعشق خالد، ليست معدنية كما يتخيل المطروقة ذاكرتهم في المصانع.
ما سمعت والدي رحمه الله يتحدث عن ربيع عمره إلا وكانت حيفا، عروس البحر، ورائدة المعالم الثقافية، والرياضية، والصناعية المسرح الحقيقي لرواياته الشفهية الأجمل عن فلسطين، حتى ان آخر شريط فيديو وصلني منه بعد اكثر من ربع قرن من غربتي القسرية عن عائلتي الحموية السورية، قبل سنوات من ارتقاء روحه الى الفردوس الأعلى وجه كلامه لي مباشرة فقال: «والله يا ابني لو يسمحون لي لرجعت غدا الى فلسطين».
بدأ والدي حياته في حيفا بعد ست سنوات من ولادته تقريبا في العام 1914، أي حوالي ثلاثين عاما في كنف اخواله «الحمويين» السوريين التجار المقيمين في حيفا، الذين لقبهم اهلها «بآل الحموي» نسبة لأصولهم، فهم من مدينة «حماة» التاريخية، توأم اريحا كأقدم المدن التاريخية المأهولة في العالم، ورغم ان هذه السنوات هي في الحقيقة ثلث سني عمره، الا انه ترك لنا ارثا من حكايات وصور من فلسطين.. ففصل الصبا والشباب في حياة المرء هو الأغنى والأجمل. فهنا يصنع المرء الحقائق كسفينة طافية على سطح ماء بحر الذاكرة العميقة. وهنا في حيفا كان لـ(محمد تركي الحموي)– هكذا كانوا يعرفونه في حيفا عندما فاز ببطولة فلسطين في الملاكمة– قصة عشق مع فلسطين، فأنا لم اسمعه يتحدث عن موضوع أو قضية أو مثل أو تجربة الا وكانت فلسطين وحيفا بالذات حاضرة عن (سابق تصميم وترصد)، حتى تخيلته قائدا او منظرا في حركة أو حزب يعبئ ويثقف الجمهور، حتى اني احببت فلسطين من روايات ابي قبل ان اعيشها مع روايات اهلها في المدارس الابتدائية والإعدادية لوكالة غوث اللاجئين في مخيمي اليرموك في دمشق، والعائدين في مدينة حماه.
كان يشعر باهتمامي وأنا اتابعه يتحدث بإحساس ومشاعر رقيقة عن حيفا رغم صلابته، فقد كان رحمه الله صاحب ارادة ورؤية ثاقبة.
ما كنا بحاجة لنشرات حزبية، ولا لوسائل اعلام، ولا خطابات عنترية، ولا احلاف مقاومة وممانعة، ولا تيارات وقوى وجماعات السياسة ومشتقاتها، متعددة الأشكال والألوان والأجناس والمشارب، لنحب حيفا، ونرث عشقها، فروايات ابي كانت اصدق وأخلص وأوفى، فلكثرة ما حدثنا والدي عن جبل الكرمل ظننت انه الجبل المقدس في فلسطين.. لكني عندما كبرت وتعلمت، وعدت لهذا الجزء من الوطن أدركت بعضا من سر تقديس ابي لوطنه الثاني فلسطين.
ورثة فلسطين هم عشاقها، الذين سيبدلون قانون التقويم، فهم ان هجروا منه، فإن الوطن لم يهجر قلوبهم وعقولهم، حتى وان اجبرهم الارهابيون على مغادرته بقوة فوهات السلاح المفتوحة على شهوة سفك الدماء ، ففلسطين باقية، هي ذاكرتهم ما دامت السماء زرقاء، وما دامت الشمس نورا والقمر ضياء، وما دامت ديار حيفا العتيقة والقدس يفوح في فضاءاتها (اريج الياسمين).
لو اجتمعت كل امبراطوريات العالم فإنها لن تقدر على قلع فلسطين من قلب (أبناء الوفاء)، فالشعب الذي يتمسك بالحياة لاحياء الوطن، لا تجف فيه شجرة عائلة الانسان، سيرفع علم حريته ليظلل ارضه بالسلام.
اكتشفت وأنا في السنتين بعد العقد السادس من عمري بعضا من سر ابي.. فالحرية وانوارها المشعة ثقافة انسانية، ورخاء ونعمة وبركة، وهذه كلها هي الأسباب الأعظم لديمومة عشق الوطن، أما الأموال والأملاك والبيوت فمتبدلة.
تعلمت ان مفتاح العودة الى جنة الوطن هو عقل الانسان ذو الارادة.. فأبي «السوري الحموي، الفلسطيني الحيفاوي، تعلم القراءة والكتابة في حيفا دونما معلم ولا كُتَّاب!.. فمن ذا الذي لا يقدسك يا وطن؟!