بين المقاومة والإرهاب... ولجنة التواصل - أنور رجب
لم يكن المهاتما غاندي ومن بعده نيلسون مانديلا يملكان التفويض الشعبي الكامل في تبنيهما للمقاومة السلمية اللاعنفية كخيار استراتيجي في مواجهة قوى الاستعمار، وكلاهما تعرض للنقد والتجريح والتشكيك من قوى داخلية لم تكن ترى في هذا الأسلوب ما يضمن وما يحقق النصر، في ظل استمرار قوى الاستعمار في ممارسة بطشها واستبدادها وتجاهلها لرموز المقاومة السلمية، وتغذيتها للمجموعات المعارضة لها من خلال استدراجها لمربع العنف، إلا انه وفي نهاية المطاف وبتمسكهما بالصبر وطول النفس وإيمانهما بصحة النهج الذي سلكاه، انتصر غاندي وانتصر مانديلا وانتصر نهجهما السلمي اللاعنفي.
مع الاعتراف بان لكل تجربة خصوصيتها وظروفها، إلا انه بالتأكيد لا يمكن تجاهل تجارب الشعوب الأخرى بغرض دراستها والاستفادة منها عند الحديث عن المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خاصة أننا نعيش في ظل مرحلة تموج بتغيرات وتحولات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي لسنا بمعزل عنها، ولا نمتلك مقومات النأي بأنفسنا بعيداً عن تفاعلاتها ومخرجاتها. فكل دولة في محيطنا وعمقنا العربي تحديداً لديها ما يكفيها من أزمات حادة ومستعصية تفرض عليها أن تكون تحالفاتها واستراتيجياتها وفقاً لما تقتضيه ضرورات الحفاظ على الذات في ظل تصاعد وتعاظم دور أدوات العبث بالعالم العربي وفي مقدمتها الطائفية والإرهاب. ولأننا نعيش ضمن عالم لم يعد يرى في المقاومة العنفية أساساً لحل الصراعات السياسية، ولأننا لن نحقق أهدافنا بعيداً عن تأييد ودعم المجتمع الدولي الشعبي والرسمي، وبالنظر لما حققته الجماعات الإرهابية من قدرة على نشر فعلها الإرهابي في مختلف أنحاء العالم، فقد شكَل ذلك مدخلاً لإسرائيل والولايات المتحدة وغيرهما للسعي بهدف الخلط بين المقاومة والإرهاب، ولقد بذلت القيادة الفلسطينية جهوداً مضنية في أروقة الأمم المتحدة ومؤسساتها ولجانها خاصة تلك المتعلقة بمكافحة الإرهاب لقطع الطريق على تلك المحاولات، ولا نعلم إن كنا كفلسطينيين سنتمكن من الاستمرار في هذا النجاح مستقبلاً أم لا، إذا ما أخذنا بالحسبان ضبابية المشهد بين العمليات الإرهابية وعمليات المقاومة لدى الرأي العام الغربي، الذي سيختلط عليه المشهد بين الشاحنة التي قادها الإرهابي في باريس ودهس وقتل العشرات في يوليو الماضي أو تلك، التي قادها الإرهابي في برلين قبل أيام ودهس وقتل وجرح العشرات من المواطنين الألمان، وبين بعض عمليات الدهس التي اسفرت عن قتل وجرح من الاسرائيليين، ومع إدراكنا للفارق الكبير بين هذا وذاك، خاصة أن "العمليات" الفلسطينية هذه، هي عمل فردي غير منظم، وتأتي في سياق ردود الفعل على إرهاب الاحتلال وغطرسته، إلا أننا يجب أن ندرك بالمقابل أن هناك فارقاً بين أن يمنحنا القانون الدولي المشروعية في المقاومة المسلحة، وبين أن يتفهم المجتمع الدولي والرأي العام الغربي استخدامنا لهذا الحق المشروع وما ينتج عنه في ظل اختلاط الصورة وضبابية المشهد وتداخل المفاهيم.
انطلاقاً من ذلك يتوجب علينا كفلسطينيين أن نعيد قراءة تجربتنا النضالية وأدواتها بعين ناقدة واقعية، قراءة قائمة على تصويب أخطائنا وكبواتنا، مستفيدين من التجارب التاريخية لشعوب سبقتنا في تحرير نفسها، يجب على الأقل أن نمتلك الجرأة والشجاعة في تقييم الفترة التي أعقبت عام 2000 وكانت "المقاومة المسلحة" عنوانها الرئيسي، وكذلك تقييم حصاد ثلاث حروب شنتها إسرائيل على قطاع غزة منذ العام 2008، وبعيداً عن المقارنة والتفاصيل والإحصائيات والأرقام التي بالقطع لن تكون نتيجتها في صالحنا، يجب أن نقول وبصراحة ان معيار الربح والخسارة لا يقاس بحجم الضرر لدى الطرف الآخر بقدر ما يقاس بحجم الخسائر والكوارث التي لحقت بنا وبحجم الضرر والتراجع الذي أصاب قضيتنا الوطنية. مع الأخذ بعين الاعتبار أن خيار المقاومة السلمية ما زال في موضع خلاف عند بعض الفصائل خاصة في بيانها السياسي حتى وهي لا تمارس الضد من هذا الخيار، والأهم أننا لم نمنح الفرصة في وعينا الجمعي لهذا الخيار حتى ولو لفترة زمنية بسيطة لنرى مدى صوابيته من عدمها، ولهذا نجد أنفسنا أمام سؤال وطني بامتياز وهو: لماذا لا نعتمد المقاومة الشعبية السلمية كخيار استراتيجي لتحقيق أهدافنا الوطنية بالتحرر والاستقلال بعيداً عن النزعات الشوفينية المدمرة؟
يقودنا الحديث عن المقاومة الشعبية السلمية للحديث عن لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، بوصفها أحد أوجه هذه المقاومة، وما يثير الاستغراب والاستهجان هو الهجوم غير الموضوعي وغير المبرر تحت يافطات وشعارات فضفاضة تخلو من المنطق والعقلانية على هذه اللجنة وعملها وعناوينها، فإن كان من الطبيعي أن نتفهم وجود بعض الملاحظات هنا أو هناك حول أداء اللجنة، لكن ما لا يمكن تفهمه هو معارضة الفكرة من حيث المبدأ، وكما هو معروف فإن الهدف الرئيسي لعمل هذه اللجنة هو تشكيل رأي عام داخل المجتمع الإسرائيلي مؤيداً للحقوق الفلسطينية وينادي بإنهاء الاحتلال، ويشكل أداة ضغط على حكومته في هذا الاتجاه، ويساهم في نشر ثقافة السلام والتعايش بين الشعبين، وهذا ما لا يريده اليمين الإسرائيلي المتطرف بكافة مسمياته، ولهذا يطلق العنان لقطعان المستوطنين ولقوات جيشه لتنفيذ جرائمهم وإرهابهم بحق الفلسطينيين لاستدراجهم لردود فعل تُبقى على دائرة العنف مستعرة. وما يبعث على الأسف هو أن وزير الجيش الإسرائيلي ليبرمان واليمين الإسرائيلي المتطرف أدركوا مبكراً خطورة عمل هذه اللجنة على مشروع الاحتلال، في حين لم يدرك البعض منا أهميتها الاستراتيجية لصالح قضيتنا ومشروعنا الوطني حتى الآن. إن أعظم انجاز قد نحققه كفلسطينيين هو نجاحنا في تشكيل جبهة واسعة داخل المجتمع الإسرائيلي يخرج مؤيدوها في الساحات العامة بحشود ضخمة تطالب بإنهاء الاحتلال. وهنا يستحضرني ما أورده صديقي الكاتب أكرم عطا الله في مقال سابق له بعنوان "لم ننتصر في تل أبيب" اقتبس منه ما يلي: ( لقد قالت تجربة التاريخ ان عاصمة المحتل التي اهتزت شكلت عنصر الضغط الأبرز لإنهاء الاحتلال، فماذا فعلنا نحن كي نجعل تل أبيب تغرق بالمتظاهرين؟). ومن هنا فان المطلوب من كل أولئك المؤمنين بأهمية عمل هذه اللجنة الانتقال من طور الهمس والأحاديث المغلقة إلى الجهر بموقفهم وقناعاتهم، والابتعاد عن أنصاف المواقف وأسلوب الإيحاء والتوازن في الطرح!!!!!. كما يجب أن يبقى عمل اللجنة وجهدها بعيداً عن المنافسات والمناكفات التنظيمية والحزبية والسياسية، وان يكف البعض عن منح أنفسهم الحق في منح شهادات الوطنية أو نزعها، أو اختصار الوطن والشعب والقضية في رؤيتهم الحزبية الضيقة الأفق والقصيرة النظر، والتي لم تجلب لنا سوى الكوارث الواحدة تلو الأخرى.
كما يجب علينا القول ان النتائج المرجو تحقيقها بفعل نشاط لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي، ستبقى محدودة ما لم يتم رفدها وتعزيزها بأشكال أخرى من المقاومة السلمية، ومنها على سبيل المثال توسيع وتعزيز قاعدة المشاركة شعبياً ورسمياً في وقفات الاحتجاج والتظاهر والاعتصام في الأراضي التي تتقرر مصادرتها، وعدم الاكتفاء بالتقاط الصور مع المتضامنين الأجانب الذين يفوق عددهم أحياناً أعداد الفلسطينيين، وتطوير الأمر باتجاه مشاركة فاعلة لاسرائيليين فيها. وكذلك تفعيل برنامج مقاطعة البضائع الإسرائيلية، وكلنا تابع كيف تحولت المواقف الشعبية في العديد من الدول حول مقاطعة بضائع المستوطنات لمواقف رسمية لتلك الدول، بالإضافة إلى العديد من الوسائل التي يمكن تفعيلها وابتداعها كجزء من منظومة عمل متكاملة، تضمن لنا تحقيق انجازات قد تكون صغيرة ولكن بتراكمها وتعزيزها بالعمل السياسي والدبلوماسي ستقودنا إلى تحقيق حلمنا بالخلاص من الاحتلال وإقامة الدولة. وحينها سيخلد التاريخ اسم الرئيس محمود عباس بجانب اسمي المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا كونه من تبنى هذا النهج أمام الشعب الفلسطيني والعالم بوضوح ودون مواربة، وسار عليه بإصرار وصبر وحكمة، مجنباً شعبنا مزيدا من الكوارث وسفك الدماء، منطلقاً من إيمانه بعدالة القضية الفلسطينية وثقته بالشعب الذي اختاره ليقوده إلى النصر والدولة.