لماذا ليس مفاجئاً أن تكون تركيا في مرمى الإرهاب؟أنور رجب
ودعت تركيا العام 2016 وهي تأن تحت وطأة الهجمات الإرهابية الدموية، التي أودت بحياة العشرات وإصابة المئات من المواطنين ورجال الأمن الأتراك ومن جنسيات أجنبية متعددة جلهم من السياح، هذه الهجمات ذات شقين: الأول- مرتبط بمنظمات كردية متطرفة مثل "منظمة صقور حرية كردستان" التي يشار بوجود صلة تربطها مع حزب العمل الكردستاني. والثاني- مرتبط بجماعات إسلاموية إرهابية يأتي في مقدمتها تنظيم "داعش". وبالرغم من الاختلاف بين الطرفين في المعتقدات والأولويات والأهداف، وطبيعة القضية التي يتبناها كل منهما، إلا أن التداخل بين قضايا وأزمات المنطقة بأبعادها المتعددة (عرقية– طائفية– مذهبية- سياسية) الذي تفرضه تعقيدات المحاور والتحالفات وتقاطع المصالح وتعارضها، وتباين الأجندات السياسية أوجد العديد من المنافذ التي يلج منها كل طرف على الآخر سواء بإرادته أو بإرادة الأحداث ومجرياتها في المنطقة، ومن هنا يمكن القول أن الهجمات التي تستهدف تركيا اليوم بشقيها تلتقي في عدة أهداف أهمها: النيل من هيبة الدولة التركية والنظام السياسي القائم فيها، وضرب أسس الاستقرار ونشر الفوضى فيها، الأمر الذي يرسخ صورة تركيا بوصفها بلداً غير آمن، بما لذلك من تداعيات على قطاع السياحة وبالتالي على الاقتصاد التركي الذي يعاني من أزمة متنامية، خاصة وان تلك الهجمات تقع في أماكن حيوية وتوقع عددا كبيرا من الخسائر البشرية والمادية والمعنوية.
وبعيداً عن الخوض في تفاصيل الأزمة الكردية المتشعبة والمعقدة، التي يتم توظيفها هي الأخرى سياسياً من قبل عدة أطراف إقليمية ودولية، وأصبحت بشكل أو بآخر من ضمن أدوات دعم الإرهاب أو مكافحته وفقا لتصنيف هذا المحور أو ذاك أو هذه الدولة أو تلك، فإننا سنتناول الإرهاب الداعشي بوصفه إرهاباً عالمياً عابراً للحدود يستهدف الجميع دون استثناء، ولكن فيما يتعلق بتركيا فان الحديث عن تطور الفعل الإرهابي فيها يحتاج إلى وقفة تناقش مسؤولية السياسة الأردوغانية في استحضار الإرهاب إلى تركيا من خلال توظيفه للإسلام السياسي وأدبياته وأدواته في خدمة مشروعه القومي، وفي هذا السياق تبلور الدعم التركي بالتنسيق والتفاهم مع قوى إقليمية لدعم فصائل المعارضة السورية بما فيها فصائل إسلاموية متشددة من ضمنها جماعات مدرجة على قائمة الإرهاب، مثل: جبهة النصرة التي حاول أردوغان تسويقها كواحدة من فصائل المعارضة المعتدلة بعد تغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام".
لم يكن مفاجئاً أو مستغرباً أن تعلن دولة داعش الحرب على تركيا قولاً وفعلاً بعد الانقلاب المفاجئ في السياسة الخارجية التركية وتحديداً تجاه الأزمة في سوريا وانتقالها إلى محور روسيا– إيران، وانخراطها الكامل في الحرب على داعش من خلال دعمها ومشاركتها لقوات "درع الفرات" في محاولة القضاء على داعش في مدن جرابلس والباب شمال سوريا. لقد كان تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" من أكثر المستفيدين من الدعم والتسهيلات التي قدمتها تركيا للجماعات المسلحة السورية المعتدلة منها والمتطرفة، حيث عبر الآلاف من المقاتلين القادمين من شتى أنحاء العالم إلى سوريا من خلال الحدود التركية الذين التحق معظمهم بتنظيم داعش، وكانت تركيا بمثابة محطة الترانزيت للجماعات الإرهابية (ذهاباً وإياباً)، مما منح التنظيم القدرة على تشكيل الخلايا النائمة، وتوفير الملاذات الآمنة لها في تركيا بعد أن أصبح على دراية ومعرفة بطرق التهريب وتجاوز الإجراءات الأمنية، واستقبلت المستشفيات التركية المئات من عناصر التنظيم والجماعات الإرهابية الأخرى بهدف العلاج، وتمكن العديد منهم من الإقامة في المدن التركية بصحبة عائلاتهم، كما استفاد التنظيم مالياً من بيع النفط السوري لشركات تركية بأسعار زهيدة، هذا ناهيك عن استيلاء داعش على كميات ضخمة من الأسلحة والعتاد الذي كان يصل لفصائل المعارضة السورية عبر الحدود التركية، وكل ذلك كان يتم بمعرفة ودراية الحكومة التركية وأجهزة استخباراتها. ومن المسلم به أن تركيا كانت آمنة في تلك الفترة من الهجمات الإرهابية ولكن إلى حين، وعندما انخرطت تركيا في الحرب على داعش في وقت متأخر وبعد تردد استمر لسنوات كانت قد أصبحت مليئة بعناصر "داعش" وخلاياه النائمة وذئابه المنفردة، ولعل قدرة الإرهابي الذي هاجم الملهى الليلي في اسطنبول مؤخرا على تنفيذ تلك المجزرة بهذه السهولة وتمكنه من الفرار مؤشر على مدى تمكن داعش في تركيا، ومؤشر على ما هو قادم أيضاً.
ومن هنا فانه لا يمكن الفصل بين الهجمات الإرهابية التي تضرب تركيا بتوجيه من داعش، وبين سياسة الرئيس أردوغان في استخدام وتوظيف جماعات الإسلام السياسي سواء تلك التي توصف بالمعتدلة أو بالإرهابية في إدارة علاقات تركيا الخارجية، متجاهلاً الاستفادة من قراءة تاريخ هذه الجماعات الدموي وأخطاء الآخرين الذين لعبوا نفس اللعبة ودفعوا ثمن ذلك، بداية من الرئيس السادات الذي كان أول من وظفهم واستخدمهم وأول من دفع الثمن باغتياله، وكانت السبب في إيجاد تربة خصبة للإرهاب تدفع مصر تكاليفه حتى اليوم، مروراً بالولايات المتحدة ودعمها لظاهرة الأفغان العرب في حربها ضد الاتحاد السوفيتي سابقا، فكان أن أصابها ما أصابها في هجمات 11 سبتمبر وغيرها، وينطبق ذلك على دول أوروبية أخرى تلكأت طويلاً في فهم هذه المعادلة، وهذا ليس بعيداً عن دول عربية شاركت في استثمار وتوظيف هذه الجماعات وتعاني اليوم من ارتدادات ذلك على نحو واضح ، بالإضافة لما يجرى الآن على الساحة الدولية والإقليمية من عمليات إرهابية طالت وستطول العديد من الدول دون تمييز.
فالإرهاب وحش لا يمكن ترويضه أو الركون إلى مفهوم القدرة على إدارته وتوظيفه دون خسائر وضرر يفوق بمراحل ما يمكن أن تجنيه محاولات الاستفادة من توظيفه، فشظاياه وارتداداته تصيب رعاته ومستخدميه عاجلا أم آجلا. وفي هذا يمكن القول دون مواربة ودون شماتة أيضاً أن تركيا اليوم تدفع ثمن سياسة استخدام وتوظيف تلك الجماعات، وان العمليات الإرهابية التي استهدفتها هي ارتدادات متوقعة لتلك السياسة.