سماسرة الجهاد وسماسرة المقاومة.. اختلاف المصطلح وتقاطع المصالح - أنور رجب
بالتزامن مع تعاظم دور الجماعات الاسلاموية "الإرهابية" وانتشار فعلها الإرهابي، والتنظير له فكرياً تحت عنوان "فقه الجهاد"، برزت شريحة يمكن أن نسميها "سماسرة الجهاد" ممن يصنفون أنفسهم ضمن دائرة رجال الدين، ويصنفهم بعض التنويريين بـ "المتدينين الجدد"، وهؤلاء تجدهم منتشرين عبر صفحات الفيسبوك وبعض الفضائيات المغمورة، وبعضهم يجد لنفسه موطئ قدم في بعض الصحف والمواقع الالكترونية، ويُستدعى وقت الحاجة لفضائية ما، وآخرون وجدوا لأنفسهم مكاناً أرحب عبر الإعلام الرسمي سواء المقروء أو المرئي لهذه الدولة أو تلك بما يخدم إستراتيجيتها في توظيف الدين بشكل عام ومفهوم الجهاد على وجه الخصوص، ومن هنا ليس مستغرباً أن نجد الكثير من التناقض والتعارض في تناول مفهوم الجهاد من حيث تطبيقاته الميدانية ذات العلاقة بالمكان والزمان والأشخاص والوسائل، وجميعها تستعين بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية المسندة منها والضعيفة، وما تيسر من الروايات التراثية، وبتفسيرات متباينة ومتناقضة تتوافق مع أجندة صاحب الفتوى أو من يقف خلفه.
ولأننا في فلسطين الأرض المقدسة بكل ما لها من هالة ورمزية دينية، فقد ابتلينا بعد الاحتلال بعدد لا بأس به من هؤلاء فرادى وجماعات من داخل فلسطين وخارجها، فأصبحت قضيتنا والجهاد في سبيلها السلعة الأكثر رواجاً والطريق الأقصر لتحقيق مآربهم ومنافعهم الشخصية والحزبية دون اكتراث للنتائج التي تترتب على فتاويهم، ومن الأمثلة على هؤلاء يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وفتواه التي أجاز من خلالها استخدام العمليات الانتحارية بوصفها واحدة من وسائل الجهاد في فلسطين، وبعد سنوات وبعد ما نالنا من كوارث ومصائب بسبب تلك الفتوى عاد وأفتى بعدم جوازها بذريعة أن الفلسطينيين لديهم الآن وسائل أخرى يقاتلون بها، واعتقد أنه يقصد صواريخ فتحي حماد!!! السؤال: لمن يسمسر القرضاوي في فتاويه؟ وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
تجمع هؤلاء السماسرة العديد من الصفات والسلوكيات فتجدهم الأكثر تطرفاً من حيث الشكل والمضمون، والأعلى صراخاً فتراه يرعد ويزبد، ويستل سلاح التكفير فيرمي مخالفيه بالكفر دون تردد، ويتشدد أكثر اتجاه التنويريين من رجال الدين فيصفهم بالمروق والزندقة، سريع البكاء على معاناة المسلمين في بورما وسوريا والعراق وغيرها ويدعو إلى النفير للجهاد نصرة لهم ولكن بعيداً عنه وعن أبنائه، يدعو للتقشف والزهد والصبر وهو يهنأ برغد العيش، يطالب بدعم المجاهدين على قاعدة "من جهز غازياً فقد غزا" دون المساس بماله الخاص، ولا بأس بالقليل من أموال التبرعات والصدقات التي يجمعها باسم الجهاد وباسم الفقراء على حد سواء. أحدهم يدعو أبناء الأمة للنفير مجاهدين إلى سوريا، معدداً فضائل الجهاد والاستشهاد، وبعد عدة أيام ينشر خبراً يهنئ فيه ابنه "فلذة كبده" بحصوله على درجة الماجستير من ولاية اوهايو بالولايات المتحدة الاميركية...!!! والنماذج من هؤلاء السماسرة "سماسرة الجهاد" متوفرون ومنتشرون في مجتمعنا، وان كان لقطاع غزة النصيب الأكبر من هؤلاء، وأهلنا في غزة أعلم بهم وأدرى، ويكفي ان نشير هنا الى سمسرة الكهرباء التي انتفض اهلنا في غزة احتجاجاً على سرقتها كونها مثالا حيا لا يحتاج لكثير من التفسير والشرح، فهتافاتهم كانت ترفض السمسرة باسم الجهاد والمقاومة ومنها (بالطول بالعرض الكهربا تحت الارض) في اشارة الى الانفاق وما يتفرع منها من خطوط تغذي بيوت المسؤولين، وما تستنزفه من كمية الكهرباء.
وليس بعيداً عن شريحة "سماسرة الجهاد" تعيش بين ظهرانينا شريحة أخرى تختلف معها في الشكل والمصطلح، وتتفق معها في الجوهر والمضمون، وتتقاطع معها في المصالح والمنافع، وهي "سماسرة المقاومة"، فان كانت الأولى اتخذت من الدين مظلة لها، فهذه اتخذت من الوطنية الفلسطينية شعاراً لتسويق نفسها، ومن ناحية الشكل فيظهر هؤلاء بدون لحى، ويستبدلون الدشداشة بربطات العنق، ويستخدمون مصطلح المقاومة كمرادف لمصطلح الجهاد، بما يتناسب مع ثقافتهم وسلوكهم وامتداداتهم، وفي مقابل سلاح التكفير يستخدمون سلاح التخوين، ويظهر هؤلاء في قمة التطرف في تبني نهج المقاومة المسلحة في كل زمان ومكان وبكل الوسائل دون حسابات سياسية فهي حسابات من وجهة نظرهم "انهزامية – تطبيعية - تفريطية – خيانية"، ويرعدون ويزبدون كأقرانهم من سماسرة الجهاد "عند تعرضهم للتنويريين"، إذا ما تبنى أحد من أصحاب الواقعية السياسية وجهة نظر تدعو إلى المقاومة الشعبية السلمية بكل أدواتها كخيار بديل لتجنيب شعبنا مزيداً من الكوارث والمصائب، ويطلقون لأنفسهم العنان في كيل سيل من الاتهامات تبدأ بالتطبيع ولا تنتهي بالخيانة، على اعتبار أنهم يخشون من أن تصبح "الخيانة وجهة نظر"، ويسترسلون في تقمص دور التعصب للمقاومة باستخدام مصطلحات لا تخلو من العنتريات الزائفة والبطولات الكاذبة، فالكلام لا يحتاج إلى جهد ولا تُدفع ضريبة بموجبه، وهم في ذلك آمنون شأنهم شأن سماسرة الجهاد فدورهم لا يتجاوز
اللسان، أما الفعل المقاوم فيجب أن يبقى بعيداً عنهم وعن أبنائهم آمنين من الأذى، وضريبة الفعل يتوجب أن يدفعها أبناء الآخرين، ولو طالبتهم مثلاً أن يتبرعوا بنسبة 10% من راتبهم لأصحاب البيوت المدمرة في غزة بفعل "المقاومة" الذين يموت أطفالهم بسبب شدة البرد، ستجدهم ينسلون ويتمتمون بعبارات غير مفهومة للتملص وتبرير رفضهم، أليس هذا هو النفاق بأوضح تجلياته وأبشع صوره؟ "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ"، "كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون". وأنا هنا لست بمعرض الدفاع عن تبني نهج المقاومة المسلحة، ولكن الغرض من ذلك هو كشف كذب ونفاق هؤلاء السماسرة.
إن من يتبنى فكرة ويناضل من أجل الدفاع عنها، ويتحمل في سبيل ذلك الكثير من الاتهامات والتشكيك، لأنه يدرك أنها تصب في مصلحة شعبه وقضيته حتى لو كانت لا تنسجم مع المزاج الشعبي العام مثل فكرة "لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي"، فهو قد اختار الطريق الأصعب والأكثر وعورة، ولكنها الأكثر صدقاً وانسجاماً مع الذات، ومن باب أن الشيء بالشيء يذكر، نُذكَر بمقولة المهاتما غاندي: "اللاعنف هو أكبر قوة في متناول الجنس البشري، إنه أقوى من أقوى سلاح تدمير اخترعه البشر". أما الجعجعة والعنتريات عبر الصحف والفضائيات، فهي الطريق الأسهل والأقصر لمن يبحث عن بطولات زائفة في ساحات المعارك الوهمية الخالية من الأسلحة التي قد تسبب ألماً أو معاناة.
بقي أن نقول أن جوقة المنافقين هؤلاء إن لم يتم مواجهتهم بكل جرأة وشجاعة، وتعريتهم أمام أنفسهم أولاً وأمام الرأي العام الفلسطيني ثانياً عبر الحجة والبرهان، وإلا فانهم سيستمرون في السمسرة وفي بث سمومهم وأفكارهم الهدَامة، فاتهام الآخرين سواء بالخيانة أو التكفير لمجرد التباين في وجهات النظر أمر يتجاوز أخلاقيات الخلاف والاختلاف، ولا يفهم منه الحرص ولا يُفترض فيه حسن النية.