مسارات الأرض.. لقاء الإنسان بأصله
يامن نوباني
فوق ربيع الأرض عاد الجميع صغاراً. على قمة جبل طروجة بين اللبن الشرقية وعمورية في منتصف المسافة بين نابلس ورام الله، حيث تستريح سلفيت أسفل الجبل، وتظهر يافا من علوه، أحضرت مجموعة من الصبايا والشبان المشاركين في مسار جرى التنسيق له عبر "فيسبوك"، عصا طويلة وعصا صغيرة وحجرين وبدأ الجميع بلعب "العودة".
و"العودة" من الألعاب التراثية، حيث يتم وضع العود الصغير على طرفي حجرين متقابلين ورميه من قبل مشارك بواسطة العصا الطويلة تجاه مجموعة تقف على بعد عدة أمتار يحاول أعضاؤها إمساك العود قبل سقوطه أرضاً.
رافق المجموعة شاب من قلقيلية يمدد جسده تحت شجرة قيقب فوق الجبل، ويقول بعد أن رفع وجهه للسماء: حين يفكر الإنسان بالانتحار عليه أن يأتي إلى هنا. الهواء النقي وسحر الطبيعة كفيل بمنعه من القيام بفعلته.
أطفال وشبان يسألون عن أسماء النباتات والأشجار البرية، تلك الأنواع والألقاب التي يسمعونها للمرة الأولى، حشائش يتعرفون إليها بعد أن داستها أقدامهم أو رمقتها عيونهم وهي تنبت من بين الصخور أو على الحواف، نُكات يطلقها البعض في الهواء لتسقط على الباقين ضحكا.
لوحظ في السنوات الأخيرة ازدياد المجموعات التي تنظم مثل هذه الجولات الجولات كنوع من الترفيه والتسلية والتعرف على الجغرافيا الفلسطينية المقطعة بالاستيطان والمهددة في كل وقت بالاختفاء لتحل محلها أسلاك شائكة، وبنايات سكنية، ومصانع، ومعسكرات لجيش الاحتلال، وطرق استيطانية، وكل ما هو شكل من أشكال اغتصاب الأرض وتحريمها على أصحابها الفلسطينيين.
أضاف التنوع الجغرافي للمشاركين في تلك المسارات حيوية وقيمة كبيرة تمثلت في قدوم أعداد منهم من الداخل الفلسطيني (أراضي 1948)، ومن شمال وجنوب ووسط الضفة، ما ساهم في خلق علاقات اجتماعية جديدة، ارتكزت دعائمها على حُب الأرض والتعرف على ما لا يعرفونه من فلسطين، كما أتاحت لهم الالتقاء بأناس جدد تبادلوا معهم الطعام والشراب والحكايات والذكريات والأمل.
زادة عبد الحي، مدرّسة من طيرة المثلث في أراضي 1948، قالت لـ"وفا": الجولة في أحضان قرية اللبن الشرقية أعادتني إلى مسيرة الحياة والتي تصادفنا خلالها مواقف، وأماكن، ووجوه، وضحكات ودمعات تبقى عالقة في الأذهان، وتترك بصمة في قلوبنا لنعود إليها كذكريات طيبة حين نشتاق للحظات جمعت الطيبة وبرزت فيها روح الأخوّة والمحبة، والمعرفة والإلمام، والتعاون والعطاء والتفاني في حب وطن وبقعة أرض لمت شتاتنا من طيرة المثلث وقلقيلية وطوباس والفارعة وسلفيت وطولكرم ونابلس.
وأضافت: شاركت من قبل في جولات عديدة، لكن هذه الجولة كانت الأجمل والأبقى وستظل حتى أمد بعيد، جمعتنا لغة عربية واحدة، وكوفية غطت رؤوسا شامخة اعتمرتها سنين طويلة لنرثها نحن الأبناء والأحفاد ونمر بها بدرب الأجداد. جمعتنا قمم جبال اللبن الشرقية، سهولها ومروجها، مغرها وصخورها، أشجارها وأزهار لوزها، طيبة الناس الذين التقيناهم وكرمهم.
ووصفت الشابة أزل منصور من الطيرة، التجربة بأنها رائعة جدا، وقالت: عرفت اللبن الشرقية من كتاب ومن تصوير واجد نوباني المنشورة بكثافة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، فحلمت بزيارتها وحين سمعت بالمسار جئت إليها.
وأضافت: ورغم أنني شاركت بالعديد من الجولات في أراضي 1948، إلا أنها المرة الأولى التي أشارك فيها بجولة في الضفة الغربية، شجر اللوز لوحده بالنسبة لي كان تجربة جديدة، وهذه المرة الأولى التي أراه بهذه الكثافة، وتعرفت على شوارع ارتقى فيها شهداء سمعت عنهم، وتعرفت على وجهات نظر من المشاركين من الضفة في مواضيع متعددة تخصنا وتخصهم، تعرفوا على عاداتنا وتعرفنا على عاداتهم.
على بعد 30 كيلومترا من مسار اللبن الشرقية، كان مسار دير بلوط الأول، الذي شارك فيه العشرات من أهالي القرية والقرى المحيطة ومدينة سلفيت، وعدد من القادمين من مناطق مختلفة بالضفة وفلسطينيي 1948.
المسار الذي بلغ طوله 18 كيلومترا، نظمته محافظة سلفيت ومديرية السياحة والآثار في المحافظة، وشمل مواقع أثرية وتاريخية ودينية، بهدف تشجيع السياحة المحلية والتعريف بالموروث الثقافي وحمايته من الطمس والتزوير، حيث تقع معظم تلك المواقع في المناطق المسماة (ج).
وقال مدير دائرة التنمية المستدامة في سلفيت عمر السلخي، إن مسار دير بلوط هدف إلى تشجيع السياحة الداخلية في محافظة سلفيت، فمع بداية 2017 شكلت محافظة سلفيت لجنة تشجيع السياحة وحماية الآثار بالتعاون مع الوزرات ذات الاختصاص ومؤسسات أهلية، وفي المسار قمنا بزيارة المناطق الأثرية: باب النقب، وحبايل السنام، وأبو طوس، وقرنة العصفور، وأبو رعيش، ودير دقلة، ومنطقة المصاية، والمسمار، والمخرمشة، وكفر انشا، وخربة تعمر، والجزاير، ومغارة الأصنام، وتم طبخ نبات اللوف وإعداد الشاي والقهوة على الحطب.
المدير التنفيذي لجمعية روزنا رأفت جميل، قال لـ"وفا: كان مسارا بيئيا تاريخيا ترفيهيا، الآثار الموجودة من العصر البيزنطي والروماني، وكان فيه كثير من الشبان الصغار. رأينا الفلاحات في سهل دير بلوط، ورأينا تفاصيل ثقافية، تمثلت في فقرات فنية كالزجل والشعر والدحية والعزف، وكان المسار تجسيد وحدة المدن المختلفة، وكان المشاركون بمثابة عائلة واحدة.
وأوضح: تمثل المسارات خروجا من قراءة المواقع الأثرية والتاريخية في المناهج الدراسية ووسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، فهي تحمل عمقا وطنيا، وهي رد على التهويد والمصادرة من قبل الاحتلال، وتعزيز للهوية والوجود الفلسطيني، وإحياء للأرض وإعمارها بالخطوات والتعب والوصول مشيا.
المشاركة سمية قشوع (62 عاما) من الطيرة، قالت لـ"وفا": وصلنا دير بلوط فوجدنا أشخاصا من مختلف الأعمار تجمعوا للمشاركة في المسار، بعضهم حمل العصي لتساعده على تسلق الجبال. أنا وصديقه لي كنا أكبر المشاركين سنا، والجميل أن الكل حاول مساعدتنا والحديث إلينا، مررنا بفلاح يحرث أرضه بواسطة الحصان فأرجع ذاكرتي لأيام الطفولة حيث كان أبي رحمه الله فلاحا وحرث بهذه الطريقة، فشدني إحساس بالحنين وطلبت من الرجل أن أجرب الحراثة وفعلتها بسعادة.
وأضافت: تسلقنا الجبل مع أننا كدنا نيأس من ذلك عندما شاهدنا ارتفاعه. وصلنا إلى ما يسمونه دير دكلة وما هي إلا لحظات حتى بدأ التحضير لإعداد الطعام، فالبعض جهز المواقد وأشعلها والبعض غسل اللوف، وآخرون فرموا البصل. الكل كان يعمل بسعادة.
وختمت قشوع: تجمع الشبان والأطفال، وانطلقت الحناجر بالغناء وصفقت أيدي الصغار والكبار وتفاعلت مع الحداء والغناء التراثي، وكل يظهر مواهبه، طفله تلقي علينا شعر الأصفهاني وفتى آخر يكررها. مسارات ولقاءات كهذه تزيد في الترابط بين فئات المجتمع، فقد تعرفت على الكثير وكانت مفاجآت سارة أن بعضهم له أخ صديق لي أو صديقه قريب لي، وطبقت المقولة: في كل بلد ابنِ جامعا، وأصبح لي في كل بلد بيت وعائلة.
تعتبر مسارات المشي والاستكشاف والتعارف، قراءة الإنسان للأرض والتاريخ والجغرافيا، والتحام مباشر ومحسوس بالتربة والصخور والنباتات، ما يولد لدى المشارك إحساسا عميقا بالوطن، ويعطيه متنفسا قويا في ظل ازدياد الاستيطان وتآكل الأرض الفلسطينية عاما بعد عام منذ حزيران 1967.
انتشرت في السنوات الأخيرة في مدن الضفة وتركزت في محافظات أريحا والأغوار، وجنين، وطولكرم، وتتم بواسطة مجموعات شبابية فاعلة ومؤسسات أهلية ووزارة السياحة والآثار، التي تشجع وتعمل على تنظيم هذه المسارات.