نابلس.. نظرة إلى العمق
نابلس- وفا - زهران معالي- لا يختلف أحد من الزائرين للبلدة القديمة في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، على أنها لوحة فنية تاريخية، تنقلهم بين أزقتها، وأدراجها، وطرقاتها الضيقة، لعدة حضارات شكلت المكان، منذ أن أسس الرومان المدينة التي تقوم عليها نابلس اليوم.
الطرز المعماري في البلدة القديمة وتداخل بناياتها، التي تعلوها قناطر تتباين ارتفاعاتها والمسافات فيما بينها، مكونة بمجموعها حارات وأحواش متجاورة، لا يوحي بأن البناء تم بشكل عشوائي، بل وفق مخطط ارتبط مع طبوغرافية المكان ومناخه.
مدير جمعية اللجنة الأهلية في البلدة القديمة المهندس نصير عرفات تحدث لـ"وفا"،: تضم البلدة 3700 وحدة معمارية، منها 1500 منزل سكني، إضافة للحمامات والمقامات والمدارس الدينية والمساجد، وسبل الماء والمصابن.
المنازل السكنية في البلدة تتنوع لثلاثة أصناف ارتبطت بالحالة الاجتماعية والمادية لأصحابها وتوليهم للحكم في المدينة، فهناك المنازل العادية وأخرى للإشراف، وكبار التجار، وأربعة بيوت قلاعية، كان يسكنها الحكام المحليون الذين منحتهم الدولة العثمانية السلطة لجمع الضرائب، كبيت النمر وعبد الهادي وطوقان.
وما يميز تصميم البيوت السكنية في البلدة القديمة التي أخذت مظهرها المعماري الخارجي بفضل توفر مواد البناء ومقالع الحجارة في جبال المدينة، أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوضع الاجتماعي والعادات والتقاليد فيها.
فالزائر لتلك البيوت عليه أن يدخل عبر ممر ضيق ومحور متكسر، يولد شعورا داخليا لديه بالانتقال لمنطقة لها خصوصيتها، وقوانينها، حتى يستقبله أهلها بـ"سرملك"، وهي منطقة الاستقبال والضيافة التي ساعد المناخ على بقائها مفتوحة، يتوسطها نافورة مياه، فيما تبقى نساء البيت بمنطقة "حرملك"، المحرمة على العامة وهي منطقة معيشة أهل البيت، وفق عرفات.
ويمكن للنساء أن تلوذ خلف نوافذ مفتوحة على الفناء الداخلي للبيت وغير مكشوفة للمارين في الطرقات، مصنوعة من ستائر خشبية مركبة على النافذة، تسمح بمرور الضوء والتهوية لفناء المنزل، أو عبر شرفة خشبية "مشربية".
ويشبه عرفات نوافذ تلك البيوت بـ"واتس أب" تراثي للتواصل بين الجارات، التي كانت تتبادل الحديث عبرها، أو من خلال الالتقاء ببعضهن في منطقة الحوش، حيث يجهزن الطعام ويتبادلن القصص ويراقبن أطفالهن.
ويشير إلى أن "الحديث عن البلدة القديمة بغناها الاجتماعي، هو حديث عن أسرة ممتدة وعائلة كبيرة وجيران متحابين وقصص مفتوحة وخبرات متناقلة بين سيدات البيوت".
ويوضح عرفات أن عددا من البيوت ارتبطت بحمام أو مصبنة أو كليهما، كبيت عاشور الذي ارتبط بمسجد وسبيل للمياه، وبيت القاضي عبد الواحد الخماش الذي ارتبط بمصبنة وحمام، ومنزل الأغا طوقان الذي ارتبط بحمام خاص لاستعمال العائلة والعموم في أوقات أخرى.
ولا يمكن الحديث عن البلدة القديمة، دون الحديث عن ينابيع المياه فيها، والتي ساعدت على وجود 10 حمامات في نابلس وحدها، من أصل 38 حماما في فلسطين التاريخية، بالإضافة لـ18 سبيلا للمياه، و34 مصنعا للصابون.
وتزخر البلدة القديمة بالأماكن الدينية، والمدارس، فتضم 13 مقاما دينيا، عدد منها كتّاب ومدارس دينية، و11 مسجدا تاريخا كان عدد منها كنائس في العهدين البيزنطي والصليبي وتحولت لمساجد مع دخول الإسلام.
"مدينة نابلس القديمة التي يمكن مشاهدتها الآن فوق الأرض معظمها تعود للفترة العثمانية"، قال عرفات.
وينوه إلى أن ما يميز البلدة القديمة، تخصصاتها الحياتية، كمنطقة السوق والمنطقة التجارية والحرفية، كسوق القماش والعطارين..، فيما أقيمت المناطق الحرفية في أطراف البلدة، يتم الانتقال منها للمناطق السكنية تدريجيا، بشكل يلائم طبيعة الإنسان، ويولد ارتياحا نفسيا لزائري المدينة.
وحول المقارنة بين البلدة القديمة في نابلس والمدن القديمة في العالم، يقول عرفات ان للمدن القديمة في العالم الإسلامي والأوروبي صفاتها ومميزاتها الخاصة، وكل موقع مرتبط بناؤه بتاريخه، وطبيعته الجغرافية، والمصادر الطبيعية فيه.
ويشير إلى أن موقع نابلس الجغرافي على محاور الطرق التجارية التاريخية التي ربط الشمال بالجنوب، أوجد فيها أربع وكالات تجارية وخانين؛ لتلبية احتياجات المارين داخل البلدة القديمة من القوافل التجارية.
ويوضح أن طبيعة جغرافية المدينة، وتوفر ينابيع المياه فيها، وتوسطها بين جبلين، دفعت الرومان لاختيارها لتوفير الحماية للجيش، مؤكدا أن تلك الطبيعة فرضت نوعا من التخطيط الحضري في المدينة الرومانية، وإن حاول الرومان اتباع النظام الأساسي "الشارعان المتعامدان".
ويضيف عرفات "مع تطور الزمان وقيام حضارات مختلفة، تجدد البناء وتخطيط الشوارع بشكل متناغم مع التخطيط الأساسي مع بعض التحول، سواء بإيجاد تعرجات للمرات والأزقة وأبقي على الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة شرقا غربا".