دولة المؤسسات.. وسلطة الوجهاء
إياد الرجوب
القوانين المكتوبة في فلسطين واضحة تماما، وهي الركائز والدعائم الأساسية لبناء دولة المؤسسات المنشودة، ولا يمكن بناء دولة من هذا النوع إلا بالالتزام الحقيقي بتلك القوانين ذات السلطة الثابتة، حتى وإن اعترى بعضها يسرة هنا أو قسوة هناك، فتظل هي الفيصل غير المختلف عليه في أي خلاف، وهي الناظمة لحياتنا اليومية.
المزعج، بل والمؤذي أحيانا لدرجة القهر، هو الاحتكام لسلطة الوجهاء المختلف عليها، وتحييد سلطة القانون والتشريعات الرسمية، فهناك وجهاء عشائريون، ووجهاء اجتماعيون، ووجهاء فصائيلون، ووجهاء سياسيون، ووجهاء من رجال الأعمال، وخليط متناثر غير متجانس حمل الوصف دون أي مؤهل، ترى الدواوين العشائرية عند كل "عطوة" تعج بهم فلا يبقى متسع لأصحاب الشأن.
الوجهاء أربعة أصناف، ثلاثة منهم زائفون وواحد فقط هو الأصيل، فصنف مات كل من يكبرونه وظل هو الأكبر سنا في عائلته أو حزبه أو مجتمعه أو شريحته فصار وجيههم، وصنف ظل مرافقا للوجهاء فترة ما حتى صار وجيها محسوبا عليهم، وصنف أنعم الله عليه بمال وفير ولجأ الوجهاء إليه لكفالة ما أو دفع تعويضات أو مصاريف عاجلة على أن يسددوها له لاحقا ثم صاروا يصطحبونه معهم فصار وجيها، أما الصنف الأخير فهم هؤلاء الوجهاء الأصلاء المفطورون على الإيثار وحب الخير للناس والنزعة الإنسانية ووأد الفتنة، ويمتازون بالحكمة ورجاحة العقل وسرعة البديهة وعزة النفس والكبرياء، وهؤلاء قليلون جدا في المجتمع، وقليلا ما يفسح لهم المجال لحل القضايا المجتمعية، لأن الأصناف الثلاثة الأخرى تكاد تكون هي المسيطرة على الساحة.
السؤال القوي هنا هو: من الذي غيب القانون وسمح لهؤلاء الوجهاء من الأصناف الثلاثة الأولى أن يقتحموا قوانيننا؟ فأي تدخل من أي أحد من هؤلاء لحل قضية ما لا يمكن أن يأتي بنتيجة إلا على حساب القانون ذي النصوص الواضحة والصريحة.
الوجيه الحق في دولة المؤسسات الحقيقية لا يرتضي لنفسه أن يكون فوق القانون، والوجيه الحق لا يقبل لنفسه بدور في ظل قانون يعامل الناس سواسية في الحماية وفي العقاب، والوجيه الحق يوجه الناس للقانون ولا يقول لهم: "خلص أنا بحلها"، والوجيه الحق يلجأ الناس إليه ولا يلجأ هو لأحد.
مع غياب القانون في وقت هو أحوج ما نكون إليه فيه، ومع تراجع دور مؤسسات الدولة في الوقت الذي يلجأ المواطن إليها كملاذ أخير، ومع تراجع النزاهة والشفافية والعدل في توفير حقوق المواطن والمتطلبات الدنيا للعيش الكريم، ومع تلاشي هيبة القيادة المؤسساتية أمام الشارع وفي الإعلام، حتما سينمو الوجهاء على اختلاف مرجعياتهم في هذه البيئة الخصبة لأمثالهم، وحتما سيصبح هؤلاء ملاذا للمواطن الذي فقد الأمل في القانون.
الأغلبية العظمى من المواطنين ينادون دوما بتطبيق القانون، بصرف النظر عن عواقب تطبيقه، فالسواد الأعظم مع القانون ويفضلون أن يأخذ القانون مجراه، لأن غير ذلك بالنسبة لهم يعني تركهم لأشغالهم ومصالحهم والالتهاء بـ"جر العباءات"، ومسح الجوخ لفلان، والدفع لعلان، والتملق لإرضاء القريب والبعيد، والعيش في حالة جحيمية لا يسلم منها لا صاحب الشأن ولا حتى القريب من الجد السابع، فالمواطن لا وقت لديه ولا مال حتى يقوم بكل ذلك، وبما أنه في النهاية سيدفع من تحت الطاولة، فيفضل أن يلجأ للقانون ويدفع فوق الطاولة علنا لمحام ينوب عنه أمام كل الجهات الرسمية ليقول القانون في النهاية كلمة الفصل المنصوص عليها دستوريا، ولا يبقى المواطن مرتهنا لمزاج هذا الوجيه أو ذاك، ويحيا في مذلة توجب عليه أحيانا تحمل نتائج "طيش أو زعرنة" شاب من أبعد فخذ عنه في عشيرته، لمس قصورا في تطبيق القانون، ووجد حماية من وجيهه الخاص، فغدا يعربد في الشارع لا يرى إلا نفسه، غير مبال بنتيجة أفعاله، فالوجيه يحميه حتى من القانون.
آن الأوان لتطبيق القانون بحذافيره على الجميع، دون تمييز بين وزير أو غفير، وملاحقة كل مذنب مهما علا شأنه، وحماية كل مواطن يريد أي يعيش بكرامة.
آن الأوان لإعادة الهيبة لسلطة القانون وتحييد أي تدخلات للوجهاء، بل وإقصاء هؤلاء عن التدخل في أي عمل للجهات الرسمية والقضائية.
آن الأوان لإعادة الثقة بالقانون لدى المواطن في مؤسسات الدولة، وصولا إلى احترام المواطن للرد القانوني عليه من الجهة الرسمية، أيا كان الرد، ويتوقف عن المقارنة المؤلمة الدائمة ما بين تراجع القانون لدينا وقوة القانون في دولة الاحتلال.
آن الأوان لبناء دولة المؤسسات على أصولها الدستورية والتشريعية، واستبعاد سلطة الوجهاء وصلاحياتهم التي ساهموا في تغييب القانون كي ينتزعوها من مؤسسات الدولة، ليحافظوا على وجودهم كحالة عامة غير قابلة للزوال.
آن الأوان للوجهاء أن يدركوا بأن دورهم كان حاجة فلسطينية زمن الاحتلال، أما اليوم فلدينا قانون ومؤسسات دولة، وأجهزة أمنية، ونيابة، ومحاكم صلح وبداية وعدل عليا، ومحاكم استئناف ونقض، وهذه كلها موجودة وفاعلة مهما حاول بعض المشبوهين التقليل من شأنها لوقوع فلسطين كدولة تحت احتلال، فدولة فلسطين تحت الاحتلال نعم، لكن مؤسسات دولتنا غير محتلة، ويديرها فلسطينيون بكفاءات علمية ووطنية ويحتكمون فيها للتشريعات الفلسطينية والقانون الأساسي الذي لا يمايز بين أي مواطنين تبعا للون أو جنس أو عرق أو دين.
آن الأوان ليكون القانون هو الحكم، والدولة ومؤسساتها لكل مواطنيها.