كيف حول الرئيس نقاط الضعف الى قوة
باسم برهوم
الدبلوماسية الماهرة والذكية ليست هي التي اصحابها ليس اصحاب ترسانات عسكرية واقتصادية بالغة القوة، يمارسونها انطلاقا من هذا الواقع، وانما هي تلك التي يحول صاحبها نقاط الضعف في موازين قواهم الى قوة، عبر تسلل محسوب بين المسننات المعقدة للسياسة الدولية التي لا ترحم الضعفاء. خطاب الرئيس محمود عباس ابو مازن، الذي القاه امام الجمعية العامة للامم المتحدة هو نموذج يدرس كدليل لهذه الدبلوماسية الذكية.
لذلك استغرب من بعض ردود الفعل التي رأت في الخطاب تعبيرا عن ضعف، او انه نوع من الاستجداء، الخطاب كان نموذجا للمرونة التي هي في واقع الامر صلبة اكثر من الصلابة ذاتها. لقد سار الرئيس في خطابه عبر استخدامه لغة ناعمة متعايشة منسجمة تماما مع القانون الدولي، ومع المزاج السائد على الساحة الدولية المناهض للارهاب، لكنه كان صلبا وثابتا في التعبير عن الحقوق والثوابت الوطنية، وفي الوقت نفسه مجردا الاحتلال الاسرائيلي من كل اسلحته ومبرارته.
ولكي نفهم مهارة الرئيس ابو مازن الدبلوماسية، لا بد ان نلاحظ اولا، جوهر الموقف الاسرائيلي وكيف ان الرئيس عراه من فوق اهم منبر للسياسة الدولية. اسرائيل لا ترفض مبدأ حل الدولتين وقياس دولة فلسطينية مستقلة وحسب وإنما تريد إبقاء احتلالها في اطار الامر الواقع الراهن، الذي اشار اليه الرئيس، سلطة بلا سلطة مع استمرار احتلال غير مكلف. الموقف الاسرائيلي ليس جديدا انه امتداد لشعار صهيوني (ارض اوسع وسكان اقل)، وهو امتداد لاستنتاج خرجت به قيادات في اسرائيل خلال الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الاولى عندما اعلنوا انهم لا يريدون ان يسيطروا على شعب اخر، وبالفعل قاموا بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنهم تنكروا للاتفاق الذي وقعوا عليه ( اتفاق اوسلو) الذي كان من المفترض ان ينهي الاحتلال وينتهي بدولة فلسطينية في نهاية المطاف.
هنا برز كيف حول الرئيس نقاط الضعف الى قوة، اولا عبر تحدي اسرائيل بان تعود وتتحمل مسؤلية احتلالها، وبرز ثانيا عندما عرض على اسرائيل فكرة الدولة الواحدة بحقوق متساوية لمواطنيها، اذا ما استمرت في رفض حل الدولتين. هذا الموقف الذي يعني للبعض انه عادي، هو في جوهره نهاية للصهيونية وفكرة الدولة اليهودية، انه باختصار تحد ايديولوجي وسياسي، تحد لأسس فكرة المشروع الصهيوني، وفي الوقت نفسه لا يمكن ان يرى المجتمع الدولي فيه شيئا غريبا.
موقف آخر من بين المواقف العديدة في الخطاب، هو ذلك المتعلق بوعد بلفور، التي تعلن صاحبة الوعد بريطانيا انها ستحتفل بالذكرى المئوية بإعلانه (عام 1917) الرئيس لم يستجد بريطانيا ان تلغي احتفالها بل دعاها الى الغائه، والاعتذار للشعب الفلسطيني، وتعويضه عما لحق به من ضرر جسيم لا يزال يعيش تداعياته ويدفع ثمنه حتى الآن. هذا التحدي لبريطانيا ونحن نعرف من هي بريطانيا الماكرة في السياسة الدولية، هو مثال على تحويل نقاط الضعف الى قوة في اطار القانون الدولي الذي يرفض مبدأ منح اراض ليست جزءا من تلك الدولة المانحة لمجموعة هي ليست صاحبة الارض.
مساءلة اخرى وهي تحميل الرئيس مسؤولية ما جرى ويجري للشعب الفسطيني للمجتمع الدولي وللامم المتحدة بالذات، وذلك عندما قال ان الاحتلال وصمة عار على جبين اسرائيل اولا، وعلى جبين المجتمع الدولي وهذه المنظمة الدولية، هذا الموقف هو تعبير عن قوة وشجاعة وليس عن ضعف.
عندما نريد تقييم خطاب الرئيس ابو مازن، علينا ان نقيمه على ضوء الواقع الفلسطيني والعربي الذي ندرك مدى هشاشته وضعفه وعلى ضوء سياسة ازدواجية المعايير التي يتعامل بها المجتمع الدولي عندما يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية. فالخطاب في هذا الاطار هو في واقع الامر مقاومة من الطراز الاول، بل هو المقاومة بعينها، خصوصا عندما رفض الرئيس المحاولات التي تهدف الى الغاء القائمة السوداء في مجلس حقوق الانسان والتي تتضمن اسماء مجرمي الحرب الاسرائيليين ، من الذي يجرؤ عربيا ودوليا على مجرد التلميح الى هذه المسـألة.
الأهم من كل ذلك ان خطاب الرئيس شكل حماية بوجود الشعب الفلسطيني على ارضه وصموده عليها، واعتقد ان هذا الهدف هو الذي حدد عمليا شكل ومضمون الخطاب. وبغض النظر عما احتواه الخطاب من رسائل لكافة الاطراف، فإن جوهر موقف الرئيس هو حماية وجود وصمود الفلسطينيين على ارضهم.
الخطاب وما احتواه ليس هو نهاية المطاف، بل هو بداية لمرحلة نضالية فلسطينية جديدة في اطار صراع طويل لن يحسم في الضربة القاضمة، لذلك دعا الرئيس في خطابه لوضع استراتيجية فلسطينية جديدة.