إستراتيجية حماس... بين مفهومي التمكين والشراكة
بقلم: أنور رجب
دون شك، هناك ثمة تغيرات جدية يمكن قراءتها في مجمل التحولات التي طرأت على إستراتيجية ونهج حماس، تضمنتها وبشكل مكثف وثيقتها السياسية في الأول من مايو الماضي، والتي جاءت بعد ثلاثة عقود من الجمود الذي رافق مسيرة الحركة بسبب القيود التي فرضها ميثاقها الصادر في أغسطس 1988، بيد أن المواقف المعلنة والتطبيقات العملية في نهج وإستراتيجية الحركة على أرض الواقع وتحديداً فيما يتعلق بالرؤية السياسية والسلوك الميداني كانت تشهد مرونة لا يمكن إغفالها، الأمر الذي يشي بأن ذلك الجمود كان مختزلاً في النصوص المكتوبة (الميثاق)، بينما جاءت الوثيقة لتترجم تلكم التغيرات وتحولها من خطابات ومواقف كلامية همساً وعلناً إلى نصوص مكتوبة تحرر الحركة من القيود التي فرضتها نصوص الميثاق، وتمنحها هامشاً واسعاً في العمل السياسي وإدارة علاقاتها الإقليمية والدولية بما يخدم رؤية الحركة وأهدافها. بالمقابل أوجدت هذه التغيرات والتحولات تساؤلات مشروعة حول مدى عمقها وجوهريتها، ومستوى تأثيرها على الواقع الفلسطيني، وهل ستقود حماس إلى التخلي عن مشروع التمكين بمفهومه الإخواني الواسع، لصالح الاندماج ضمن المشروع الوطني الفلسطيني وفق مفهوم "الوطنية الفلسطينية"؟ أم أن ما يجرى هو إعادة تموضع فرضتها الظروف الذاتية والموضوعية التي تمر بها الحركة استناداً إلى "فقه الضرورة"؟
منذ نشأتها وضعت حركة حماس مشروع "التمكين" كهدف استراتيجي لها في إطار المشروع الإخواني الإسلاموي الكبير، وكما هو معروف فان مفهوم التمكين جزء أصيل في المنظومة الفكرية والتربوية للإخوان المسلمين، وبما يحمله من مضامين فهو يتناقض مع المشروع الوطني الفلسطيني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، مما وضع حماس في الجانب المضاد للمشروع الوطني لصالح مشروعها الإخواني، الذي سخرت له كل طاقاتها وإمكانياتها المادية والفكرية والبشرية، وهو ما وجَه بوصلة فعل حماس السياسي وحدد طبيعة علاقاتها سواء على الساحة الداخلية أو على المستويين الإقليمي والدولي. وعليه شهدت حماس منذ انطلاقتها عام 1987 جملة من التحولات الدراماتيكية في نهج وطريقة عملها بما يخدم مشروع التمكين، بحيث انتقلت من الرفض العنيف لاتفاق أوسلو والعمل على إفشاله، إلى المشاركة في الانتخابات البلدية والتشريعية عام 2006، لتدخل عبر نتائجها بكل ثقلها ضمن منظومة الحكم الفلسطينية وتحت سقف أوسلو برعاية قطرية وموافقة أمريكية، ولم تلبث طويلاً لتقدم على خطوة إستراتيجية أخرى في نفس السياق "التمكين" عبر الانقلاب على الشرعية والسلطة الوطنية والسيطرة بالقوة المسلحة على قطاع غزة، (وهو ما يتطابق مع الرؤية النفعية لجماعة الإخوان لمفهوم الديمقراطية)، ومع انطلاق ما يسمى ب"ثورات الربيع العربي"، وما تلاها من صعود لجماعة الإخوان، تعاملت حماس وكأن مشروعها بإقامة إمارة إسلامية في قطاع غزة والتمكين لها قد بات في متناول اليد، فانغمست حتى أذنيها ضمن المشروع الإخواني الكبير، الأمر الذي فرض عليها إعادة صياغة تحالفاتها بما يتوافق مع استحقاقات ذلك المشروع، فانقلبت على محور "الممانعة" سوريا وإيران وحزب الله، وتدثرت برداء محور قطر – تركيا (حواضن المشروع الإخواني الكبير) ووضعت بيضها كله في سلة هذا المشروع.
ترافق ذلك مع جملة من التحولات في نهج وإستراتيجية حماس واكبت مسيرتها خلال الفترة الماضية، في جُلَها كانت تصب في خدمة مشروع "التمكين" والحفاظ على إماراتها في غزة، وهي تحولات كانت موجهة للخارج (إسرائيل والمجتمع الدولي) وبرعاية وتسويق من قطر وتركيا، بداية من وقف العمليات الانتحارية مروراً باتفاقيات التهدئة والهدنة طويلة الأمد ومشروع الدولة المؤقتة، وصولاً إلى تأمين الحدود مع إسرائيل، وبالتالي كان من البديهي أن تناور حماس وتتهرب من الاستجابة لمشاريع المصالحة وإنهاء الانقلاب كونها تتعارض مع جوهر مشروع الإمارة "التمكين". بيد أن التغيرات التي طرأت على الإقليم والمنطقة، أنتجت ظروفا ومناخات جديدة تركت آثاراً عميقة على حركة حماس، فالمشروع الإخواني الكبير ضُرب في الصميم بعد ثورة 30 يونيو في مصر، ولم تفلح محاولات تركيا وقطر وحماس في إعادة بث الروح فيه، وتغيرت إدارة أوباما بإدارة ترامب التي حملت أجندة مناقضة فيما يتعلق بالموقف من الإخوان، وأصبحت الجماعة موضع شك من معظم الدول الغربية التي بدأت تعيد النظر في آليات التعامل معها، وبالتالي فقدت حماس الحاضنة الرئيسية لها، وتبددت آمالها بتحقيق المشروع الإخواني الكبير، الأمر الذي وضع مشروع التمكين وإقامة إمارة إسلامية في قطاع غزة في مهب الريح، حتى باتت الحركة بجميع مستوياتها وأفرعها على قناعة بضرورة البحث عن بدائل تضمن لها الحفاظ على الذات، وما تبقى لها من مكتسبات حققتها طوال الثلاثة عقود الماضية، فكانت وثيقة مايو التي تضمنت التغيرات التي جرت طوال تلك الفترة وترجمتها في نصوص مكتوبة، ولم تشفع لها هذه الوثيقة أمام إدارة الرئيس ترامب الذي أعلن في مؤتمر الرياض أمام قادة وممثلي 55 دولة عربية وإسلامية عنها بوصفها حركة إرهابية بجانب القاعدة وداعش وحزب الله، وتعمقت أزمة علاقاتها الإقليمية أكثر بعد معضلة وأزمة قطر، وتصاعد حدة الصراع بين السعودية وإيران وما نال حماس على هامشها.
على صعيد الأوضاع الداخلية للحركة، فقد فشلت حماس فشلاً ذريعاً في تقديم نموذجاً للحكم يتوافق مع الحد الأدنى مع شعاراتها حول الحكم الرشيد والنزاهة والشفافية، ناهيك عن قضية التزاوج بين الحكم والمقاومة، كما فشلت في إدارة القطاع خاصة من ناحية توفير الاحتياجات الضرورية لحياة الناس، وما ترتب على ذلك من أزمات اقتصادية واجتماعية مستعصية، ولم تفلح مبررات (حماية المقاومة والمؤامرة الكونية) في الحد من تآكل شعبيتها، والاهم من ذلك كله هو تراجع منظومة القيم التربوية والسلوكية لدى شريحة كبيرة من قيادات وكوادر وعناصر حماس بكافة قطاعاتها، فأصبح الفساد الأخلاقي والمالي والسياسي بجانب الاختراق الأمني منظومة متكاملة تتحكم بتوجيه بوصلة الحركة في العديد من المسائل والقضايا، هذا فضلاً عن اشتداد حدة التجاذبات والصراع بين أقطاب ومحاور الحركة، ثم وجدت حماس نفسها أمام استحقاقات كبيرة في حال استمرار تمسكها بالسيطرة على قطاع غزة لم تعد قادرة على الإيفاء بالحد الأدنى منها، بفعل الإجراءات التي اتخذها الرئيس أبو مازن للضغط عليها وإجبارها على الانصياع للمصلحة الوطنية العليا بإنهاء الانقلاب وإعادة اللحمة لشقي الوطن، هذا في ظل أزمة مالية تعصف بها، لا سيما بعد فقدان اقتصاد الأنفاق لزخمه، وتراجع الدعم الإيراني لأدنى مستوياته واقتصاره على كتائب القسام، ومؤخراً تراجع الدعم القطري لدرجة صفر.
أمام هذا كله أصبحت حماس كمنظمة ومشروع في حال استمرارها بنفس النهج والإستراتيجية السابقة أمام خيارين، إما التآكل الذاتي والانهيار من الداخل أو استدعاء التدمير الخارجي (حرب مع إسرائيل)، وبالتالي لم يكن أمام حماس بدٌ من إجراء مراجعة جادة وقراءة موضوعية للخروج من مجموعة الأزمات المحدقة بها، بما يضمن الحفاظ على الذات، وإعادة التموضع محلياً وإقليمياً، واستعادة زخمها ودورها وتأثيرها تدريجياً، تتخلص فيها من كل الأعباء والأخطاء والخطايا التي أثقلت كاهلها نتيجة فشل مشروع الإمارة "التمكين"، ولكن هذه المرة عبر البوابة الفلسطينية، وهذا يستوجب وضع خارطة طريق جديدة، تنسجم مع ظروفها الذاتية والموضوعية، وتمثل استجابة لنصائح تلقتها حماس من أطراف عديدة في مقدمتها إيران وحزب الله، ومن الواضح أن هذه الخارطة قائمة على إستراتيجية جديدة تتماهي في كثير من تفاصيلها مع نموذج حزب الله في لبنان. وحتى تنجح هذه الإستراتيجية كان من الضروري أن تمهد حماس لذلك من خلال العديد من الخطوات أهمها: استبعاد خالد مشعل من المشهد الحمساوي كونه يشكل حجر عثرة أمام إعادة تموضع الحركة إقليمياً سواء تجاه إيران وحزب الله أو تجاه مصر، وبالتالي حسم الصراع بين قيادتي غزة والخارج بنقل مركز ثقل القرار في الحركة لحماس غزة التي تملك جميع أوراق القوة بما يؤهلها لهذا الأمر وبما يتناسب مع الإستراتيجية الجديدة، وعلى الصعيد التربوي والسلوكي كان لابد من العمل على استعادة "طهرانية" الحركة والمقاومة في الوعي الجمعي الفلسطيني عامة والحمساوي خاصة، وهذا يستدعي إبراز قيادات جديدة تحظى بسجل وتاريخ نقي، ولم ترتبط في ذهن الناس بممارسات حماس الدموية ولم تتلوث بفساد قياداتها، وترجمت ذلك من خلال الحملة التي قادها قائد الحركة الجديد يحيى السنوار على منظومة الفساد وعمليات الاختراق الأمني.
لم يكن هذا التحول ليجد طريقه للتنفيذ دون استعادة العلاقة مع مصر، بغض النظر عن الثمن الذي ستدفعه حماس، مما يعني الاستجابة للنصائح والضغوط التي مارستها مصر دون تردد، لا سيما وأن مقتضيات الأمن القومي المصري تستدعي احتواء حماس لا مواجهتها. ومن هنا جاءت استجابة حماس لمبادرة ومطالب الرئيس أبو مازن متناغمة مع الإستراتيجية الجديدة للحركة، والتي يأتي في سلم أولوياتها التخلص من أعباء حكمها لقطاع غزة بعد أن أثقلته بالأزمات والكوارث، وفي هذا السياق جاء الاستقبال الحافل وتقديم كافة التسهيلات و(العض على النواجذ) لانجاح عودة الحكومة إلى غزة، وما كادت تغادر الحكومة غزة حتى أعلنت حماس "إن قطاع غزة ووزاراته أصبح تحت إدارة حكومة الوفاق الوطني"، وكأنها تنفست الصعداء، وتقاطع ذلك مع ما سبق وأعلنه السيد يحيى السنوار: "أنه في حال فشلت المصالحة لن تعود حماس لحكم قطاع غزة".
بالمحصلة فان حماس أمام ثلاثة نماذج أو مشاريع تتعلق برؤيتها الإستراتيجية، الأول: هو مشروع التمكين، وقد فشل هذا النموذج وسقط سقوطاً مدوياً من الناحية العملية والتطبيقية، والنموذج الثاني هو: استنساخ تجربة حزب الله، وهو ما يتعارض مع المناخ المحلي والإقليمي، وطبيعة البنية الاجتماعية والسياسية الفلسطينية، وهذا لا يعني أن حماس لن تسعى إلى التماهي والتقاطع مع تجربة حزب الله في العديد من القضايا والمسائل، خاصة وان موضوع "المقاومة" (..!!) يوفر الحاضنة لمثل هذا الخيار، أما النموذج الثالث فهو: نموذج الشراكة الوطنية، لا سيما وأن التحولات والتغيرات التي طرأت على الحركة تشكل الأساس والقاعدة التي يمكن أن تنطلق منها للعبور باتجاه شراكة وطنية حقيقية، إن هي أرادت ذلك ، لا سيما وأن لديها العديد من المقومات التي تمنحها القدرة على المنافسة ديمقراطياً والاحتفاظ ولو بالحد الأدنى من الفعل والتأثير في شتى المناحي والمجالات سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، بيد أنه لا يمكن لنا أن نجزم بأن حماس قد اتخذت قراراً استراتيجياً بإحداث تغيير جذري في بنيتها السياسية والتربوية والفكرية بما يتوافق وينسجم مع استحقاقات ومتطلبات مفهوم الشراكة الوطنية، فبالرغم من كل ما جرى ويجري من تحولات، وما تقدمه حماس وقياداتها من خطاب يتضمن الكثير من المفردات والجمل ذات المضامين الوطنية، فانه لم يشكل حتى الآن اختباراً جدياً على الصعيد العملي التطبيقي، يمكننا من خلاله التقرير بمدى اقتراب حماس من مفهوم الشراكة قولاً وفعلاً، ويبقى أن ننتظر قادم الأيام ومراقبة تفاعل الحركة مع تطبيق عناصر وبنود اتفاقيات المصالحة بعيداً عن البهرجة الإعلامية والتقاط الصور وتوزيع باقات الزهور، و"إن غداً لناظره قريب".