قراءة في أبعاد ودلالات مجزرة مسجد الروضة بسيناء
بقلم: أنور رجب
المجزرة المروعة التي نفذتها الجماعات الإرهابية بحق المصلين في مسجد الروضة في منطقة بئر العبد بشمال محافظة سيناء، اختصرت من الناحية التطبيقية قاموس التوحش بكل مصطلحاته ومفرداته وأدواته ومرجعياته، بعد أن خطت بدماء الشهداء من الأطفال والشيوخ والرجال ما يعنيه الإرهاب باسم الله والدين، والى أي مدى يمكن أن تتحول الأفكار الظلامية والتفسيرات المتطرفة للدين إلى رصاص وصواريخ ومتفجرات وعبوات ناسفة بيد معتنقيها الذين تحجرت قلوبهم وعقولهم وفقدوا معها إنسانيتهم، فعاثوا في الأرض فساداً وإفسادا ونشروا القتل والتدمير والخراب دون أن توقفهم أي حدود دينية أو أخلاقية أو إنسانية. ولذا فهذا النوع من الهجمات المغرقة في التوحش واستهداف مساجد المسلمين بمن فيها أمراً ليس غريباً على نهج وسلوك الجماعات الإرهابية فقد سبق وأن حدث في الباكستان وأفغانستان وما زالت، وكان أمير القاعدة في بلاد الرافدين "أبو مصعب الزرقاوي" قد دشن بداية عهده في العراق بهذه النوعية من الهجمات، وتكرر ذات الأمر في الكويت والسعودية. بيد أن العملية الإرهابية في مسجد الروضة تحمل قدراً من الاختلاف عن تلك التي قادها الزرقاوي ومن تبعوه، وان كان هذا الاختلاف لا يمس المبدأ والجوهر، ولا يعدو كونه اختلاف في الدرجة والتأصيل الفقهي ليس إلا.
اعتمد الزرقاوي ومرجعياته الفكرية على تأصيل فقهي قائم على رؤية طائفية لإدارة استراتيجيته القتالية، معتبراً أن الشيعة هم العدو المركزي والرئيسي في العراق، وانتقلت هذه الرؤية في تطبيقاتها العملية إلى أماكن أخرى، بينما في مجزرة مسجد الروضة فقد استهدف الإرهابيون مسجداً يتبع لأهل السنة، وفي مثل هذه الحالة فإن التأصيل الفقهي قائم على رؤية فكرية تبرر استهداف الفرق الإسلامية المخالفة لنهجهم، وترى في مساجدهم ما يطلق عليه في الموروث التاريخي الإسلامي "مساجد الضرار" والمقصود تلك التي تُبنى للضرر بالمسلمين وأذيتهم، نسبة إلى مسجد أقامه المنافقون وأمر الرسول الكريم بهدمه، وكون مسجد الروضة يتبع لواحدة من الطرق الصوفية التي ترى فيها الجماعات الإرهابية مصدراً للبدع والشعوذة والخرافة وتشويه العقيدة الإسلامية، فانه ينطبق عليه وصف "مسجد ضرار"، ولا يجوز الصلاة فيه، وبالتالي فانه يجوز استهدافه ومن فيه من "أهل البدع والخرافة" حسب زعمهم. وفي كلا التأويلين نجد أنهما يستندان إلى تفسير مجتزأ للنص الديني بعد أن يتم تحريفه وتحويره وإخراجه من سياقه العام والخاص بما يتوافق مع الإستراتيجية القتالية لكليهما، كما يستندان إلي أحاديث غير صحيحة أو ضعيفة يستغلها هؤلاء لدعم آرائهم ومواقفهم، بالإضافة إلى استدعاء الرواية التاريخية بشكل انتقائي، و بالتالي لا غرابة أن تقدم هذه الجماعات على ارتكاب مثل هذا الفعل الهمجي، وهذا فيه قول كثير وواسع لا مجال له في هذه المقالة.
إذاً مبعث الصدمة لا يكمن في إقدام هذه الجماعات على هذا الفعل، وإنما مبعثه هو العدد الضخم من الشهداء وبهذه الوحشية وهذا الإصرار على قتل أكبر عدد ممكن من المصلين بما فيهم الأطفال، فقد درجت الجماعات الإرهابية في سيناء على استهداف الأقباط وكنائسهم، كما استهدفت سابقاً القوات المسلحة المصرية وهم يستعدون لتناول طعام الإفطار في شهر رمضان المبارك، وسبق وأن تم استهدف الصوفيين في شمال سيناء عدة مرات، كان أبرزها خطف وقتل سليمان أبو جزر وهو واحد من أكبر مشايخ الطرق الصوفية بمحافظة سيناء، ناهيك عن تفجير عدة أضرحة للصوفيين، واستهداف القبائل السيناوية كما هو الحال مع قبيلتي الترابين والسواركة، ولكن هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها الجماعات الإرهابية منذ أن وجدت في مصر بداية السبعينيات من القرن الماضي على استهداف مسجد بمن فيه من المصليين، ومن هنا فان هذه المجزرة تؤكد أنه وضمن الرؤية الفكرية والإستراتيجية القتالية للجماعات الإرهابية فان كافة شرائح المجتمع وطبقاته ممن يخالفونها هم أهداف لها، وان تأخر هدف عن الآخر، ولا فرق لديها بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي، أو سني وشيعي، أو سلفي وصوفي.
أسئلة عديدة تثار حول تفاصيل هذه المجزرة من حيث الجهة التي تقف خلفها، والأهداف التي تتوخاها من وراء تنفيذها، وأسباب اختيار المسجد كهدف للعملية، وتوقيتها؟ أما الجهة التي تقف خلفها، وبالإضافة إلى شهادة الشهود، فان تنظيم ولاية سيناء – فرع داعش، وان لم يعلن فجميع المؤشرات تؤكد مسؤوليته عنها، فهو الجماعة الإرهابية المسيطرة هناك والمسؤولة عن تنفيذ جميع العمليات التي تحدث في سيناء، لا سيما بعد أن انسحب هشام عشماوي المؤيد لتنظيم القاعدة مع مجموعته واستقر في ليبيا، بعد أن أعلن تنظيم أنصار بيت المقدس بيعته لتنظيم داعش وأصبح ولاية سيناء، مع الأخذ بعين الاعتبار زيادة العنصر الأجنبي (الغير مصري) في صفوف التنظيم الذي لا يعير اهتماماً للخريطة الديموغرافية وتعقيداتها في سيناء، وربما هذا ما يفسر أيضاً التحول في علاقة التنظيم مع القبائل السيناوية من الاحتواء إلى المواجهة بعد إعلان البيعة لتنظيم داعش.
الهدف الرئيسي الذي تتوخى داعش تحقيقه من خلال هذه المجزرة هو الإثبات أنها لا تزال موجودة وتمتلك القدرة على الفعل وقتما تشاء وأينما تشاء، وبالتالي إثارة مزيد من البلبلة والرعب في صفوف المواطنين، واثبات أن الدولة غير قادرة على حمايتهم وأنها ما زالت ضعيفة أمام قوة وقدرة الجماعات الإرهابية، لاسيما بعد النجاحات الملموسة التي حققتها الدولة المصرية في محاربة الإرهاب وتجفيف منابعه وموارده، والهدف الثاني هو ردع المخالفين لها من الفرق الإسلامية الأخرى التي تعمل على دحض رؤيتهم الفكرية، وفي الوقت نفسه ردع القبائل السيناوية من التعاون مع الدولة في مواجهة التنظيم، وهنا يطبق التنظيم إستراتيجية التوحش ساعياً إلى دفع الناس للقبول بهم كبديل عن الفوضى وانعدام الأمن ودرءاً لتوحشهم الذي سينتج عن عملياتهم الإرهابية والتوسع في عمليات القتل والتهجير، وهذا ينسجم مع الانحسار والتراجع الناتج عن هزائم التنظيم في العراق وسوريا وليبيا، ويأتي في إطار البحث عن موطئ قدم جديد للتنظيم وهو ما يتوفر في سيناء، الأمر الذي يفسر الزيادة الكبيرة لأعداد العناصر الإرهابية التي بدأت تتوافد إلى سيناء برعاية وتمويل من قوى محلية وإقليمية تتناقض مصالحها وسياساتها مع النظام الحاكم في مصر.
بالرغم من بشاعة هذه المجزرة، إلا أنها قد تكون وفرت الأرضية لخلق ما يعرف ب "الضد النوعي" داخل البيئة المحلية الحاضنة للجماعات الإرهابية في سيناء، ونقصد هنا تحشيد القبائل السيناوية ودعمها وتسليحها لمواجهة التنظيم بالتنسيق والتعاون مع القوات المسلحة المصرية، خاصة بعد أن فقدت عدد كبير من أبنائها في مجزرة المسجد، ويشار هنا إلي قبيلة السواركة وهي من اكبر القبائل السيناوية، بالإضافة إلى قبيلة الترابين التي كانت هدفاً سابقاً للتنظيم الإرهابي، وبالتوازي مع ذلك لابد من إيلاء مساحة كبيرة من الاهتمام بمواجهة الأفكار المتطرفة التي تتدثر بها الجماعات الإرهابية، وفي هذا الإطار أود أن اختتم هذه المقالة بتغريدة للداعية التنويري جميل عبد النبي حين قال: "أن كثيرون من فقهاء التاريخ الذين نُدرَس كتبهم في المدارس والجامعات، ونذكرهم بالكثير من التبجيل والاحترام، ونعتبرهم مراجع دينية واجبة الإتباع، يقولون بكفر الطرق والصوفية، وفي مواضع أخرى يقولون باستباحة دماء الكفار وأموالهم وأعراضهم، ومن هنا فإن الدواعش لم يفعلوا سوى أن نفذوا فتاوى هذه المراجع، فأين العجب؟".