قوة المنطق تنتصر على منطق القوة ... ولكن؟
أنور رجب
بكل ما أثاره إعلان الرئيس ترامب بشأن القدس من غضب على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي على المستويين الشعبي والرسمي، وبغض النظر عن مستوى التفاوت في كيفية التعبير عن هذا الغضب ومستوى تقاطعه مع رغبات أو مصالح لدى هذه الجهة أو تلك، إلا أنه حمل على هامش تداعياته وتفاعلاته ما يمكن أن نسميه ارتدادات ايجابية لصالح القضية الفلسطينية، فالإجماع الدولي الرافض لذلك الإعلان أفقده أي شرعية سياسية أو قانونية أو دينية أو أخلاقية، لا سيما بعد أن مارس ترامب وأركان إدارته أساليب جديدة في إدارة العلاقات الدولية وفي عرف الديبلوماسية وأصولها قائمة على منطق البلطجة والاستقواء من خلال السعي لفرض وجهة النظر الأميركية على باقي الدول عبر التهديد والوعيد بوقف المساعدات للدول التي تصوت لصالح القرار الرافض ليس لإعلانه حول القدس، وإنما لأسلوب وطريقة الولايات المتحدة في إدارة ملف عملية السلام برمته، وكانت نتيجة التصويت تأكيداً على انتصار قوة المنطق الفلسطيني على منطق البلطجة والقوة الذي يوجه بوصلة فعل ترامب وإسرائيل.
بلا شك أن إعلان ترامب حرر القيادة الفلسطينية من التوقعات التي تأملتها بحكم الدور الذي كانت تلعبه الولايات المتحدة بوصفها الوسيط المحتكر لإدارة عملية السلام، وبحكم التعهدات التي قدمتها إدارة ترامب للقيادة الفلسطينية بعدم اتخاذ خطوات أحادية ومنفردة تأتي بنتائج سلبية على العملية برمتها، والتي بموجبها أبطأت القيادة الفلسطينية والرئيس أبو مازن اتخاذ العديد من الخطوات السياسية والدبلوماسية ذات العلاقة بتطوير الوضع القانوني والسياسي لدولة فلسطين ضمن منظمات ومؤسسات المجتمع الدولي، بيد أن إعلان ترامب وفي ظل المعارضة الواسعة له على المستوى الدولي منح القيادة الفلسطينية مسوغات ومبررات منطقية تحظى بتأييد دولي واسع في تغيير قواعد اللعبة، وإيجاد أسس جديدة في إدارة عملية السلام، تبدأ في كسر احتكار الولايات المتحدة كمرجعية وحيدة ومتفردة لها، بعد أن أثبتت انحيازها وعدم حياديتها وتحولت لطرف إلى جانب إسرائيل، والبحث عن صيغ ومرجعيات أخرى قادرة على تحقيق سلام متوازن وعادل من خلال منح دور مركزي لقوى ومؤسسات دولية فاعلة وقادرة على تحقيق حل الدولتين الذي كان على مشارف التأبين بفعل سياسات الإدارة الأميركية، والعمل بجانب ذلك إلى توسيع قاعدة الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، ورفع مكانتها في الأمم المتحدة لتصبح عضواً كاملاً وليس عضواً بصفة مراقب.
جاء توقيع الرئيس على طلبات الانضمام لـ22 اتفاقية ومعاهدة دولية وتأكيده على الاستمرار بهذا الإجراء ضمن المنهجية الجديدة للقيادة الفلسطينية والرئيس أبو مازن في إدارة العمل السياسي والدبلوماسي بما ينسجم مع الوقائع الجديدة التي فرضها إعلان ترامب ورؤيته التي تشير اتجاهاتها لتبني النسخة الإسرائيلية للحل النهائي والمتمثلة بما بات يعرف بصفقة أو "صفعة القرن" كما أسماها الرئيس أبو مازن، وربما هذا ما يفسر رفضه الواضح والصريح لأي مشاريع تقدمها الولايات المتحدة والذي أعلنه في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، لا سيما في ظل ما يدور وما يشاع حول حلول مطروحة هنا وهناك بمجملها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.
من الخطأ النظر إلى مواقف القيادة الفلسطينية والرئيس أبو مازن بوصفها وليدة وردة فعل لإعلان ترامب، وإنما هي نتاج تراكم وحصيلة عدة شهور من دراسة سياسة ترامب وأركان إدارته بعد عشرات اللقاءات والمقابلات والجولات واستكشاف ما لديهم وما يضمرونه وبعد ما بدأت ملامح إستراتيجيتهم تتضح شيئاً فشيئاً، فكانت المواقف التي أعلنها الرئيس أبو مازن خلال معركة الأقصى في يونيو الماضي وفي مقدمتها وقف التنسيق الأمني وتبني ودعم الحراك الجماهيري، وما رشح عن رفضه لاستقبال مبعوث ترامب في حينه كانت بمثابة الإرهاصات لإستراتيجية جديدة تعمل القيادة الفلسطينية والرئيس أبو مازن على صياغتها لمواجهة ما يجرى إعداده لتصفية القضية الفلسطينية باسم "صفة القرن"، وجاء إعلان ترامب بشأن القدس ليطلق العنان لتلك الإستراتيجية التي وجدت دعماً من البعض وتفهما من البعض الآخر على المستوى الدولي، لاسيما وأن المواقف والقرارات التي انبثقت عنها جاءت في التوقيت المناسب وبما ينسجم مع خطورة الظرف واللحظة، وليست نتاج سياسية شعبوية عاطفية تفتقر لقوة المنطق والحق والعدالة (وفق المفهوم الدولي السائد)، والتي كانت واحدة من أعمدة إستراتيجية الرئيس أبو مازن، مما افقد أعداءه وخصومه في الجانب الإسرائيلي والأميركي مقومات القدرة على التحريض عليه والتشكيك بمصداقيته، فاخترعوا مصطلحات جديدة على شاكلة اتهامه بـ"الإرهاب الدبلوماسي"، وتارة أخرى اتهامه بالتحريض على الإرهاب بالإشارة إلى موضوع رواتب الشهداء والأسرى، وهي اتهامات لم تجد لها مسربا آخر تسير فيه غير مسربهم.
إن مجمل الارتدادات الايجابية لإعلان ترامب، وما فرضته من تحول على إستراتيجية القيادة الفلسطينية يستوجب أن نهيأ أنفسنا لما هو قادم، حيث من الواضح أن ترامب وإدارته لن يتجاوزوا هذا التغير الذي طرأ في على المواقف الفلسطينية، وسيمارسوا أنواعا متعددة من الضغوط السياسية والدبلوماسية والمالية، لا سيما وأنهم رأوا في التصويت لصالح القرارات التي تدعم الرؤية الفلسطينية بمثابة إهانة للولايات المتحدة وللرئيس ترامب بشكل شخصي، إذ أن الموقف الدولي الداعم للرؤية الفلسطينية لا يكفى لمواجهة ما هو قادم دون توحيد وتصليب عود الجبهة الداخلية الفلسطينية، والتي تبدأ بتحقيق المصالحة على قاعدة حماية المشروع الوطني الفلسطيني، دون النظر لحسابات حزبية أو فصائلية صغيرة، ودون الارتهان لمواقف محاور إقليمية أي كانت صفتها أو شعاراتها أو عناوينها، وبعيداً عن سياسة تسجيل المواقف والتصيد والمزايدات الكلامية والخطابات الرنانة، واتخاذ مواقف تتقاطع مع الموقف الأميركي – الإسرائيلي في الضغط على القيادة الفلسطينية تحت يافطة الاختلاف في تحديد الأولويات وأشكال المقاومة وإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، وبلا شك جميعها قضايا مهمة ولكنها ليست أهم الآن من حماية القضية الفلسطينية وإفشال المخططات الجارية لتصفيتها، والاهم أن المطالبة بها يجب ألا تكون وفق قاعدة "كلمة حق يراد بها باطل".