معمودية المسيح رهن بالأمن والسياسة!
أسامة العيسة: احتفل المسيحيون الفلسطينيون، بعيد الغطاس، على نهر الأردن، في ظل إجراءات أمنية إسرائيلية مشددة، رغم ان الترتيبات التي كان معمولا بها على احد أهم المواقع الدينية والأثرية، منذ الاحتلال عام 1967، تغيرت، على الأقل بالنسبة للسياح والحجاج الأجانب، الذين يسمح لهم بالوصول إلى الموقع في أي وقت من العام. بعد اغلاق تام للموقع منذ 44 عاما.
وتغلق سلطات الاحتلال مساحات واسعة على الضفة الغربية لنهر الأردن، بعمق 5 كلم، بحجة أنها مناطق حدودية مع الأردن، وبالإضافة إلى الوجود الإسرائيلي العسكري المكثف، وإعلان المنطقة، منطقة عسكرية مغلقة، عمدت سلطات الاحتلال إلى زراعة حقول واسعة بالألغام، والسيطرة على مبان دينية، مثل ما يُسمى بقصر اليهود، -وهو كنيسة روسية مهجورة على اسم (يوحنا المعمدان)، احتلها الشهر الماضي مجموعة من المستوطنين، تم اخلاؤهم فيما بعد-، بالإضافة، الى عدد لا يحصى من الكنائس والأديرة البيزنطية المهدمة أو المهجورة، وكثير منها كان عامرا قبل الاحتلال.
وتعترف السلطات الإسرائيلية، أن حقول الألغام لا احد يعرف أين تنتهي بعد سنوات طويلة من انجراف التربة في تلك الأرض الرخوة، ولن تكون خرائط الجيش الإسرائيلي، عاملا مساعدا، إذا تقرر الآن أو في يوم إزالتها، حسب المصادر الأمنية الإسرائيلية.
وواجه الوضع الاستثنائي وغير المسبوق الذي فرضته إسرائيل على موقع المغطس، المرتبط وفقا للتقليد بتعميد السيد المسيح، تحديا غير متوقع، من الضفة الشرقية لنهر الأردن، قبل نحو 15 عاما، فمكتشفات أثرية هامة في الجانب الأردني من النهر في عام 1999م، جعلت حكومة الأردن تعلن أن موقع المغطس "الحقيقي" ليس في مكانه غرب النهر ولكنه هناك في الشرق، في منطقة تدعى وادي الخرار.
واستطاع وزير سياحة أردني نشط في حينه هو عقل بلتاجي تسويق ذلك الموقع باعتباره المغطس (الحقيقي)، وحقق نجاحا باهرا بإدراجه ضمن المواقع التي زارها البابا يوحنا بولس الثاني في زيارته التاريخية للأرض المقدسة عام 2000، وبالطبع نشأ عن الإعلان الأردني خلاف كبير مع الإسرائيليين المحتلين لموقع المغطس الفلسطيني المعروف منذ قرون غرب النهر، ووجد الطرف الفلسطيني، صاحب الموقع المحتل نفسه في وضع حرج، لأنه لا يريد أن يخوض معركة مع الأردن، الذي يعتبر متنفسا للسلطة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته هو قليل الحيلة تجاه إسرائيل، رغم أن الاكتشاف الأردني (التاريخي) من شانه أن يمس باعتقاد قديم بموقع المغطس الفلسطيني، وبقي متفرجا على المعركة التي استعرت بين الأردن وإسرائيل حول موقع المغطس، التي لجأ فيها الطرفان، إلى الأناجيل لاستنطاقها، وكتب الرحالة، والحقيقة أن الطرفين كانا يتسابقان على نقود ملايين الحجاج الذين كان يتوقع وصولهم الأراضي المقدسة بمناسبة مرور ألفي عام على ميلاد المسيح.
وشعر الإسرائيليون بالغيظ وهم يرون البابا السابق يحط في الموقع شرق النهر، وكذلك فعل البابا الحالي، ولكن مشاريعهم في الموقع تعطلت بسبب اندلاع انتفاضة الأقصى، وأدى فيضان النهر في شتاء 2003، إلى أضرار كبيرة في خطة شاملة لتأهيل الموقع.
ووضعت سلطات الاحتلال ثقلها من اجل تأهيل الموقع المحتل، وفتحه طوال أيام الأسبوع، للسياح والحجاج، وتخفيف الإجراءات الأمنية، التي ستستمر بالطبع على طول نهر الأردن.
وشملت الخطة الإسرائيلية لتأهيل الموقع، التي عملت عليها عدة مؤسسات ووزارات، بالتعاون مع الجيش الذي يسيطر على المنطقة، بناء مدرجات للجلوس، وطرقات مؤدية إلى النهر، وغرف تبديل الملابس، وتمكين الحجاج من الاستحمام بعد طقس المعمودية، وتم تركيب كاميرات أمنية، وتم استثمار 7 ملايين شيقل لهذا المشروع.
أكثر المرحبين بالمشروع، الذي اكتمل في شهر تموز الماضي، هم المستوطنون اليهود في غور الأردن، لأنهم يأملون أن يؤدي فتح موقع المغطس طوال العام، إلى انتعاش سياحي لمستوطناتهم، والمنتجعات التي يسيطرون عليها على شواطيء البحر الميت، ومجموعة من الواحات في صحرائه، مثل عين جدي.
السلطة الفلسطينية، لم تعلن موقفا من الخطة الإسرائيلية الجديدة، أما في الجانب الشرقي من النهر، فان الأردن قطع شوطا مهما في تكريس موقعه، باعتباره المكان الذي شهد معمودية المسيح، وتعنى الحكومة الأردنية بشكل كبير بموقع المغطس الجديد، الذي يشهد إقبالا من قبل الحجاج والسياح الأجانب الذين يزورون الموقع ضمن إجراءات أمنية معينة، ولكنها لا يمكن مقارنتها أبدا بالوضع غرب النهر.
والآثار التي عثر عليها في الموقع تعود للحقبة البيزنطية، من بينها كنيسة بنيت في عهد الإمبراطور اناستاسيوس (491-518 م)، وتذكار لحدث التعميد، وتم إعادة بناء الكنيسة عدة مرات بعد دمارها بسبب الزلازل وفيضانات نهر الأردن.
وكشفت الحفريات الأردنية عن بقايا كنائس أخرى ذات أرضيات فسيفسائية ملونة ورخامية، ودير يعود إلى القرن السادس الميلادي، وهو محاط بجدار خارجي، وكنيسة يطلق عليها الكنيسة الشمالية، فيها أرضية فسيفسائية، وعثر أيضا على ما يطلق عليه الكنيسة الغربية، جزء منها محفور في الصخر.
وأقدم اثر عثر عليه في المنطقة ما يطلق عليه قاعة الصلاة، تعود إلى ما قبل القرن الرابع الميلادي، رصفت أرضية القاعة المستطيلة الشكل بالفسيفساء البيضاء، ومن الأمور المثيرة التي كشفت عنها الحفريات النظام المائي في الموقع الذي يتكون من بئر أسطواني وخزان، وكلاهما محفوران في الصخر، ويربطهما قنوات مكشوفة، جلبت المياه إليها من الأودية المجاورة عبر أنابيب فخارية، يبلغ طولها نحو الكيلو متر.
والمكتشفات التي ترتبط أكثر من غيرها بطقس التعميد ثلاث برك، منها بركة يوجد فيها بئر مبني من الحجر الرملي، بالإضافة إلى صوامع استخدمها الرهبان خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين، بنيت من الحجارة والطوب الطيني والأخشاب، ومرتبطة بالكهوف المنحوتة في الصخر الطبيعي على أطراف الوادي.
وبنيت في الموقع كنيسة حديثة باسم يوحنا المعمدان تتبع طائفة الروم الأرثوذكس، تتميز بأيقوناتها الجميلة، ويبقى أهم وأقدم معلم في المكان نهر الأردن، الذي يهرع إليه الحجاج يغتسلون بمائه الرمادي الجاري، الذي يصب في البحر الميت، في طقس لا يعرف متى بدأ في الشرق القديم، ويثير الان خلافا سياسيا.