عبير زيّاد.. تنفض الغبار عن الحقيقة
لورين زيداني
القارئة النهمة والباحثة في تفاصيل كل معلومة في مجال التاريخ والآثار منذ الطفولة، جعلت من هذه الدراسة والعمل فيها محورا لحياتها، فالتحقت بدورات وورش عمل في مجال الإرشاد السياحي، وغدت أول مرشدة سياحية في القدس ترتدي الحجاب في عمر السابعة عشرة، عبير زيّاد.
"عندما أرى مرشداً إسرائيلياً يجوب القدس المحتلة، ويخبر السياح بأن منزلا قديما سكنه اليهود منذ سنوات طويلة، رغم أنني أعرف أنه في الأصل ملك لعائلة فلسطينية، أحسّ بحجم الأكاذيب التي تنشر عن تاريخ بلدي وآثارها، فثقفت نفسي والتحقت بعدة دورات، حتى أصبحت مرشدة سياحية. في البداية كان الأمر صعبا، إذ يخرج أصحاب المحلات من حولي من أماكنهم ليسمعوا ما أقول ويتأكدوا من صدق معلوماتي، ومع الوقت أصبح وجودي وعملي عاديا، حتى أنني فتحت الباب أمام الفتيات الأخريات في مجال الإرشاد السياحي"، تقول عبير.
بعد الحصول على شهادة جامعية في مجال الآثار وتطورها في عملها، انتقلت عبير زيّاد من مرشدة سياحية بادئ الأمر، إلى مديرة للقسم العربي في متحف قلعة داوود في القدس، ورغم أن المؤسسة تتبع لسلطات الاحتلال، إلا أن زيّاد كانت تصرّ على نقل الصورة الصحيحة لتاريخ القدس والمعلومات الحقيقية عن آثارها.
"في إحدى المرات أُعطي الصغار الزائرون للمتحف صورة للقلعة لتلوينها يعلوها علم إسرائيل، من جهتي رفضت هذا النشاط في القسم العربي وفعلا لم يمر. منذ البداية كنت واضحة في عملي وحاسمة في كثير من الأمور".
وشمل عمل عبير في الآثار عددا من المقالات والدراسات، التي كتبتها في دحض الادعاءات الإسرائيلية عن الوجود اليهودي زمانيا ومكانيا من ناحية تاريخية في القدس، وترى أن الباحث في مجال الآثار يجب أن يطّلع على العديد من المصادر ووجهات النظر ويقارن بينها، ويكوّن وجهة نظره، مستنداً إلى دليل علمي أثري أو ديني، بدل الاعتماد على مصادر التوراة والإسرائيليات المنسوبة للدين الإسلامي في أحيان كثيرة. كتابات زيّاد جعلتها مهددة ومستهدفة بشكل مباشر من قبل الاحتلال.
تقول عبير "بعد نشر عدد من المقالات والدراسات لحقتها مقابلات تلفزيونية، تعرضت لي الصحافة الإسرائيلية بهجوم شديد، ففي شهر ديسمبر/ كانون الأول 2012، أفردت صحيفة "يديعوت يروشلايم" صفحتها الأولى باللون الأحمر للهجوم عليّ، بالإضافة إلى ثلاث صفحات داخلية. كانت بداية سلسلة الهجوم في الصحافة الإسرائيلية حتى تطوّر للتطاول على الدين الإسلامي، ووصلت أيضاً إلى دعوات لقتلي، وفي النهاية إلى صدور مقالتين ضدي إحداهما لرئيس بلدية الاحتلال في القدس نير بركات، يطالب بطردي وايقاف عملي في الإرشاد السياحي".
في المسجد الأقصى المبارك، وجدت زيّاد ملاذا لها، بعد مواقفها الثابتة ضد تشويه تاريخ القدس وطردها من عملها في متحف قلعة داوود، فكانت أول إدارية امرأة في المسجد، في المتحف أولاً ثم انتقلت إلى المكتبة، ولم تتوقف عن الإرشاد السياحي رغم سحب رخصتها من الجهات الإسرائيلية، بل قدمته مجاناً لزوار المسجد، تزودهم بالمعلومات الصحيحة الدقيقة عن عراقة المسجد وأصالة آثار القدس وتاريخها.
تقول عبير "العمل في المسجد الأقصى، بغض النظر عن مجال عملي، يعدّ حفاظا على المكان ودفاعا عنه، والتواجد في المسجد ليس جديدا عليّ، فبيت عائلتي يتواجد على بعد أمتار من المسجد الأقصى، ووجودي هناك مهم بالنسبة لي ولكل مقدسي يعتبره ملجأه في كل وقت".
لكن العمل في المسجد الأقصى يعني تصادماً مع الاحتلال في كل يوم وكل موقف، من الجنود الباقين عند الأبواب، أو المستوطنين المقتحمين للباحات من يوم لآخر، وحتى استهداف شخصيات بارزة من العاملين في المسجد الأقصى.
وعن هذه الصدامات تحدثت عبير من تجربتها الشخصية، "في بعض الأيام كنت أنتظر 3 إلى 4 ساعات على الأبواب لحين السماح لي بالدخول إلى المسجد، بداعي التأكد من منعي من الدخول، حتى في إحدى المرات اعتدي علي بعد ادعاء المجندة أنني عندما مررت من بين الجنود كنت بحالة فخر شديد!".
المضايقات والاعتداءات بالضرب واقتحام منزلها، ومصادرة ممتلكاتها وتكسير أغراضها وحتى اعتقالها في عديد من المرات، جزء من حياة عبير زيّاد في وتيرة متصاعدة منذ أعوام، لكن الهجمة الأكبر كانت في عام 2012،. وتقول: في شهر سبتمبر/ أيلول، كنت أمرّ من باب المجلس باتجاه عملي في المسجد الأقصى وقت الظهيرة، بالقرب من جنود تجمعوا في المنطقة، همّوا بالاعتداء عليّ، لكن وجود شبان في المنطقة وقتها ساعدني فحموني وأبعدوني عن الخطر. تكرّرت الحادثة في الشهر التالي مع نفس مجموعة الجنود، لكن في الثامنة صباحا حيث كان المكان خاليا، ورغم محاولتي الابتعاد إلا أن الهروب كان صعبا، فتعرضت لضرب شديد أدى إلى كست يديّ الاثنتين، وتعرضت لإصابات في الرقبة ما زال أثرها باقيا إلى اليوم، إضافة إلى ظهري وركبتي، حتى أنهم خلعوا حجابي وسحبوني من شعري.
وتتابع عبير "وجهت إليّ التهم فيما بعد، بوجود خمسة شهود من الجنود، لكن ربة منزل جريئة من المنطقة صورت جزءاً من الأحداث، وبتفاعل الناس معي اسقطت عني التهم، لكنني أُبعدت عن المسجد الأقصى المبارك لمدة أسبوعين".
إيمانا من عبير بأن الصمود في القدس يبدأ بالفرد ويمتد إلى المجتمع، ومن واجبها وغيرها تقديم الخدمة والدعم اللازم لمن حولها، خاصة النساء اللواتي يعشن ظروفاً اقتصادية واجتماعية سيئة، وانخفاضاً في مستوى التعليم، وضغوطاً جمة جراء ممارسات الاحتلال، أنشأت مركز الثوري النسوي في منطقة سكنها في القدس عام 2007، ويشمل برامج ثقافية وصحية وتثقيفية وبرامج التمكين الاقتصادي، وكيفية التعامل مع الحياة في القدس، إضافة الى برامج الأطفال.
عبير، الأم لأربع أطفال، ترى أن الأم المقدسية تعيش التناقض في تربية أبنائها، فمطلوب منها مواجهة الاحتلال وتربية أبنائها على القوة والتمرد وأن يتقبلوا كل الظروف من حولهم، ولكن أن يطيعوا أهلهم ويمتثلوا لأمرهم. مطلوب من الأم أن تساند أبناءها وتحميهم، رغم عدم قدرتها على حمايتهم من الاعتقال أو من هدم البيوت أو اعتداءات المستوطنين في الشارع، وأن ترسلهم إلى المدرسة، مع الخوف المستمر من خطفهم أو الاعتداء عليهم.
تستذكر عبير موقفا مع ابنتها الكبرى، لا تدري إن كانت تعتبره مضحكاً أم مبكياً، "في العام 2015 كانت قوات الاحتلال تهدم المنزل وتحطم محتوياته، وعندما وصلوا إلى غرفة ابنتي الكبرى كسروا مكتبها وأشياءها، بينما أنا كنت مكبلة بالأصفاد. أرادت ابنتي أن تقول شيئاً، اعتقدتُ أنها ستعلق على تدمير أشيائها، لكنها قالت لي وهي تمسك كتابها بيدها: مسألة الكيمياء هذه لا أفهمها، كأنها تنكر وتهرب مما يحدث".
لكن عبير في نفس الوقت، تقول: الحياة في القدس تحدٍ واستمرار، رغم الاعتداء والاعتقال وهدم البيوت من خلال أسلوب الضحك، نعتمده جميعاً في أصعب المواقف وقت الإيقاف والتفتيش والاعتقال، ونحوّل كل موقف إلى نكتة. إنها آلية الدفاع الوحيدة المتوفرة للاستمرار في الحياة.
عبير زيّاد المقدسية المتسلحة بالعلم والثقافة، والتي تؤكد أن لها دوراً كبيراً في مدى وعي الفرد وقدرته على مقاومة للاحتلال، وقدرته على الصمود، وترى أن دورها وكل واع أن يحافظوا على التعليم والثقافة، ومساعدة المجتمع على اكتساب آلية والمنطق والتفكير وتقدير الأمور وكيفية التصرف مع الظروف، انطلاقاً من الأسرة إلى المجتمع.