الأخلاق الأردنية تبدد وهم "الفوضى الخلاقة"
عكرمة ثابت
ما زالت الآثار السلبية لما يسمى نظرية "الفوضى الخلاقة" ماثلة في عقول مواطني الدول التي غزاها هذا التعبير السلبي لمفاهيم الديمقراطية والعدالة، وأمام الأعين تبقى احداث التدمير والحرق والقتل والنهب والتشريد هي الشاهد الأول والأخير على الجرائم البشرية التي ارتكبت تحت ستار نظرية وضعتها قوى عظمى متغطرسة تسعى الى شرق أوسط جديد وتغيير النظم الحاكمة فيه، مستغلة ادوات رخيصة لتنفيذ اجنداتها وأهدافها.
(الفوضى الخلاقة) التي اتسمت بالخداع وتحركها عقول وأيادي شيطانية لها مآرب ومطامع استراتيجية، اجتاحت دولا وعاثت فيها فسادا ودمارا وتمكنت من قلب الأنظمة السياسية الحاكمة فيها، فالمشهد بالعراق وليبيا وتونس ومصر واليمن، وان اختلفت آليات وأساليب التغيير من دولة لأخرى، هو ذلك المشهد المرعب الذي بدلا من أن يعمر ويجلب الأمن والازدهار لهذه الدول إلا انه كان مدمرا وما جلب غير الويل والانهيار لها.
لقد زرت أكثر من دولة عربية من تلك التي داهمتها مفاهيم العدالة والديمقراطية وترسيخ الحكم الرشيد والتي نادت بها تلك النظرية الخبيثة (الفوضى الخلاقة)، عناوين مررت بأجندات مدعومة وممولة حملت في طياتها بذور الفتنة والهلاك لأمة عربية واحدة وذات رسالة خالدة، شاهدت بأم عيني مظاهر الفوضى في ليبيا ومصر، وكيف تمكنت نظرية الفوضى من النيل من حضارة دول لها تاريخ طويل عريض لديها مقدرات وثروات وخيرات هائلة، مشاهد القتل والاستباحة والحرق والتدمير تحت شعار تعزيز الديمقراطية كانت مرعبة ومخزية في آن واحد.
وخلال سنوات ما يسمى الربيع العربي الذي جاء كأحد مخرجات النظرية السابقة وكشف عورتها وسوء نواياها، شكلت الأردن بعروبتها الملاذ الآمن لمئات الآلاف من المشردين والفارين من أسلحة الترويع والقتل الهمجي، الأردن بمواقفه القومية وبدوره الاقليمي رغم ضعف إمكانياته احتضن أبناء عروبته من شتى الدول وفتح مدارسه وجامعاته ومشافيه ومراكزه الطبية لمعالجة جرحى "الحريق العربي" والمكتوين بنيرانه.
ليس هذا فحسب، فالبرغم من سوء الاوضاع الاقليمية المحيطة به واشتداد محاولات ابتزازه للعدول عن مواقفه السياسية، هبت الجماهير الأردنية في مسيرات حاشدة جابت شوارع المملكة وجسورها، لم يتردد الشعب الاردني يوما في نصرة قضايا أمته العربية والإسلامية، لا سيما القضية الفلسطينية وقدسها الشريف.
طيلة العشر سنوات الأخيرة في معمعة الفوضى اللاخلاقة (الفوضى الخبيثة) لم تتوقف قلوبنا عن الدعوات والتضرع إلى الله عز وجل بان يحفظ الأردن ويحميه من الفتن والمؤامرات وقد تكرر ذلك خلال الأسبوع الماضي اثر ما شهدته المملكة من احتجاجات شعبية ومسيرات مطلبية عارمة.
الاردن وبوعي ملكي وجماهيري نموذجي استطاع ان يبدد، وكما هي عادته، وهم نظرية (الفوضى الخلاقة) وعكس صورة حضارية من أرقى الصور في التعامل مع الازمات الداخلية والتحلي بالصبر والحكمة في معالجتها، لا شك كان الأمر مقلقا وبالتصور البعيد بدا مرعبا، نعم كل فلسطيني فينا مصاب بالذهول والتخوف، فهذا البلد الذي كان ملاذا وما زال لمئات الآلاف من المشردين وملايين الفلسطينيين المقيمين فيه لماذا يستهدف؟! ومن هو المستفيد من خلق الفوضى وضرب الاستقرار فيه؟! ولماذا الآن؟! الخ من التساؤلات والتكهنات التي لم تتأخر الإجابة عليها، فالجموع الاردنية المنتفضة كانت على قدر عال من المسؤولية والنخب الثقافية والنقابية والاعلامية والأجهزة الأمنية ادارت الازمة بروح اخلاقية عالية، قطعت من خلالها الطريق على الايدي العابثة والعقول المتآمرة لاستغلال حالة الاحتجاج وحرفها عن مسارها.
هنا ولأول مرة في تاريخ ثورات التغيير أو هبات الاحتجاج الجماهيري يبرز نموذج الوعي الأخلاقي والانتفاض السلمي على واقع اقتصادي صعب وقرارات حكومية اثقلت كاهل المواطن .. صورة مشرفة لهبات جماهيرية واعية ومدركة لخط سيرها ومسارها، اثبت فيها المواطن الأردني والفلسطيني على حد سواء مدى حرصه على استقرار بلده واحترامه للأمن والمؤسسة الامنية فيها، ونأمل أن يستمر ذلك للخروج من هذه الأزمة بسلام.
وفي المقابل كان هناك تجاوب حضاري مميز لقوى الأمن الأردنية مع المواطن والأطر النقابية والنخب السياسية ، فرجل الأمن هو المواطن والمواطن هو رجل الأمن، لوحة رائعة رسمها الاردن بريشة ملك مبدع وحكيم.
نعم نظرية "الفوضى الخلاقة" فشلت في تحقيق أهدافها السلبية وانهزمت امام صلابة الموقف الاردني الواعي والمدرك لخطورة التصعيد والانجراف نحو المساس بسيادة الاردن واستقراره وتبددت اوهام المتآمرين امام اصغر مشهد اخلاقي لمجموعة من المتظاهرين وهم يقومون بتنظيف شوارع بلدهم من اعقاب السجائر بعد مسيرات الاحتجاج!!! انتصرت الاخلاق الاردنية على الفوضى في اعظم صورة لرجال الدرك والامن العام وهم يوزعون المياه على المحتجين ويتعاملون معهم بكل محبة واحترام!!! انتصر الكرم الهاشمي عندما تنازل الكل الاردني لصالح الوطن الواحد الموحد والمستقر الآمن!! كيف لا وقد تحملت الاردن تبعيات كل ما حدث في دول عربية شقيقة لها وادرك المواطن الاردني قيمة الحفاظ على الوطن بعد كل ما شاهده وعايشه من ويلات المت ببلدان مجاوره لبلده!!!!
فكل التحية والتقدير والاحترام للأردنيين والفلسطينيين والعرب على مختلف جنسياتهم عندما وقفوا جميعا ليصلوا في هذا الشهر المبارك .. شهر رمضان الكريم لنصرة الأردن وسلامته واستقراره، كل الاحترام والتقدير لكل من يحمي وطنه ويحافظ على أمن واستقرار بلده.