صناعة الوعي الوطني
هناك انطباع، ليس دقيقا، بأن الفلسطيني واع وطنيا بالفطرة، او بحكم الصراع والمواجهة المستمرة مع المشروع الصهيوني والاحتلال الاسرائيلي، الا ان الحقيقة- وباستثناء مراحل المد الثوري- فإن الوعي الوطني كان يتم بناؤه وصناعته بشكل عشوائي بعيدا عن أي عمل منهجي، لذلك كان يسهل تشويه الوعي بشعارات شعوبية أو خداعة بمشاريع بعيدة عن مشروعه الوطني الخاص به.
الوعي، كأي شيء آخر يصنع صناعة ولا يأتي بالفطرة او الصدفة او ضمن هبات عشوائية. للنظر كيف استطاعت الحركة الصهيونية اختراع شعب، ونجحت في تجميع يهود العالم حول رواية واهداف، اقنعت كل يهودي انها روايته وانها اهدافه بغض النظر ان كان يهوديا فرنسيا او روسيا او عربيا. ستالين ما كان لينجح في صد الوحش النازي وينتصر عليه على ابواب موسكو، ولينين غراد لو لم يصغ وعيا قوميا روسيا انتج ارادة الصمود والايمان بالنصر.
قبل تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية على الارض الفلسطينية، ما كان ممكن الحديث عن صناعة منهجية للوعي الوطني الفلسطيني. لأننا لم نكن نسيطر على مؤسستنا التعليمية، تجربة الثورة الفلسطينية في الاردن ومن ثم لبنان، وامتلاكها الحيز الجغرافي النسبي، منحها متنفسا لتصنع وعيا وطنيا انتج ذاكرة جماعية وحدت الشعب الفلسطيني. الامر ذاته بالنسبة للهامش الذي منحته الانتفاضة الاولى في صياغة وعي جماعي، كما حدث في السابق مع ثورة عام 1936، والتي بدورها صنعت وعيا وطنيا.
كيف يمكن ان نصنع وعيا وطنيا بشكل منهجي منظم؟
في الاطار العام هناك اربع مؤسسات يمكنها ان تسهم في صناعة الوعي، وهي: المؤسسة التعليمية "المدرسة والجامعة"، المؤسسة الحزبية والتنظيمية، المؤسسة الإعلامية الوطنية، وأخيرا مؤسسة الاسرة او البيت.
في النصف الاول من القرن العشرين، وعندما أدرك الاستعمار العالمي انه امام امة عربية ترفض الهيمنة وتريد استقلالها الوطني، سأل هذا الاستعمار نفسه كيف يمكن ان نمنع نهضة هذه الامة ونبقيها في حالة تخلف؟
احد ابرز الاجابات، كان ابقاء السيطرة على التعليم من اجل السيطرة على عقل المجتمع. لذلك تم تسليم وزارة التعليم في الدول العربية لجماعة الاخوان المسلمين، وكانت النتيجة وأد النهضة العربية وابقاء العرب اسرى للماضي، لا ينظرون للمستقبل. ما نحتاج اليه في صناعة الوعي الوطني، هو أولا صياغة الرواية الفلسطينية التاريخية بشكل محكم، ثانيا صياغة مشروع وطني يستند الى هذه الرواية وتوضيحه بشكل كامل عبر المؤسسات سابقة الذكر للأجيال الفلسطينية جيل بعد جيل.
انني أتساءل هنا لماذا لا يوجد تخصص جامعي متكامل، يحصل صاحبه على شهادة البكالوريوس وشهادات عليا في القضية الفلسطينية. هدف هذا التخصص والقائمين عليه كتاب الرواية الفلسطينية بشكل منهجي بعيدا عن ملابسات السياسة اليومية ودهاليزها. انني أتساءل لماذا لا يوجد حتى الآن مؤسسة بحثية فلسطينية مهمتها صياغة الرواية الفلسطينية بشكل منهجي ومحكم، ومن هذه الرواية نضع مناهج المدارس والجامعات ونربي اطفالنا في بيوتنا.
الانسان ووعيه هو الهدف وهذا ليس شعارا يقال، بل هو عمل منهجي دؤوب، فالوعي هو صناعة.. لنبدأ الآن في صياغة وعي وطني فلسطيني من الصعب اختراقه..