بيادر الخريجين
زهران معالي
على سفح عدة تلال مطلة على المنطقة الشمالية من بلدة عجة جنوب جنين، يمضي مئات العاملين يومهم في حركة نشطة بين ألسنة اللهب والدخان المتصاعد من حرق أطنان من سنابل القمح الأخضر، لإنتاج الفريكة التي تشتهر بها البلدة.
بينما كان ينقي سنابل القمح من الشوائب عبر مذراة "الشاعوب" كما تعرف شعبيا، قال رائد زغلول (47 عاما)، إنه ينتظر موسم الفريكة الذي يعمل فيه منذ ثلاثين عاما بشوق، مشيرا إلى أن المزارعين في جنين تعلموا المهنة من مزارعين قدموا من الخليل للمدينة في ثمانينيات القرن الماضي.
ويروي زغلول لمراسل "وفا"، كيف تطورت طرق حصاد سنابل القمح من جمعها يدويا بالسلال وتنقيبها وفرشها، إلى حصادها عبر آلات ميكانيكية خاصة ونقلها بالشاحنات إلى بيادر جهزت حديثا في تلال البلدة صبت بالإسمنت.
"موسم الفريكة، يشكل أعمالا شاقة للمزارعين لكن فيه كل المتعة"، يؤكد زغلول الذي اكتست ملامح وجهه وكفيه بلون "الشحبار" الأسود الناتج عن حرق السنابل.
منذ السادسة صباحا، يبدأ زغلول برفقة فرقة "الزغاليل" التي يقودها والمكونة من 10 عمال، رحلة البحث عن لقمة العيش بين ألسنة اللهب، ويشرعون بنثر سنابل القمح التي قطفت مساء على بيادر لتجف لعدة ساعات، قبل أن يعودوا وقت الظهيرة لتبدأ عملية الحرق والدراس حتى ساعات ما قبل الغروب.
ويتوزع العاملون في موسم الفريكة، التي يقارب عددهم 300 عامل على فرق، وكل فرقة تتكون من 10 عاملين تتوزع المهام بينهم، بين نثر سنابل القمح وحرقها وتقليبها وتنقيتها من الشوائب، ونقلها عبر بسط لدرسها.
ويضيف زغلول، وهو سليل عائلة دأبت على العمل بالزراعة أبا عن جد: "نمسح سخامها بعرقنا، لكن رغم هذا تجد فيه المتعة كون لهذا الموسم الخير لقريتنا والبلدان المحيطة بنا".
وتشير سجلات وزارة الزراعة إلى أن مساحة الأراضي المزرعة بالقمح تبلغ في الضفة الغربية وقطاع غزة 133 ألف دونم، فيما يستغل منها بين 5000-7000 دونم في جنين وطوباس والأغوار الشمالية لإنتاج الفريكة.
زغلول الذي يرى أن "شحبار" هذا الموسم وناره تناقض حكاية المثل الشعبي "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود"، فبالنسبة إليه يمثل الموسم إخفاء القرش الأسود لليوم الأبيض المتمثل بالحج لبيت الله الحرام أو كسوة ولده، أو تعليمه الجامعي.
لكن ذلك الأمل الذي يحمله زغلول يتلاشى في أرض البيدر، ففي فرقة "الزغاليل" التي يقودها ثلاثة خريجين جامعيين أحدهما يحمل شهادة الماجستير، ورابع متقاعد عسكري، وخامس ما زال على مقاعد الدراسة في جامعة النجاح.
"إذا أردت مشاهدة معاناة الشعب الفلسطيني تجدها في بيادر الفريكة، ليس نتيجة درجة الحرارة العالية، لكن مما تشاهده من طلبة الجامعة والخريج، فتجد المحاسب وحتى الطبيب بالبيدر". يؤكد زغلول.
ووفق الجهاز المركزي للإحصاء، فإن الشباب (19-29 عاما) هم الأكثر معاناة من البطالة، وبلغ معدل البطالة بينهم حوالي 44%، كما أن الشباب الخريجين الذين لديهم مؤهل علمي دبلوم متوسط فأعلى هم الأكثر معاناة من البطالة، حيث بلغ معدل البطالة بينهم 58%.
وبين أن الفرق المتوزعة على التلال، تجد عشرات من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل أو موظفين حصلوا على إجازات للعمل في موسم الفريكة أو متقاعدين لزيادة دخلهم.
على مقربة من زغلول، كان سعيد أسعد (38 عاما) خريج ماجستير التخطيط والتنمية السياسية، يقلب سنابل القمح على لهيب النار، قال لـ"وفا": نظرا لعدم توفر فرص لعمل الخريجين مضطر للعمل في الفريكة.
ويحصل العامل في موسم الفريكة على أجرة يومية تصل إلى مئتي شيقل.
وأضاف أسعد "بلدنا مجتمع زراعي والبلد معتمدة على الزراعة أساسا، لا بد لنا من العودة للعمل في الزراعة للحفاظ على الأرض من الاستيلاء، الزراعة لها مردود وطني واقتصادي".
ويؤكد أسعد الذي تخرج منذ عام 2008 من الجامعة، بأنه لا يمكن أن تتم أي تنمية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، دون تحقيق تنمية زراعية كون فلسطين مجتمع يعتمد أساسا على الزراعة، التي تشكل كنزا لابد من الاستثمار به.
وهذا ما يؤكده خريج التربية الرياضية، يوسف نواصرة (31 عاما)، من قرية فحمة المجاورة لبلدة عجة، الذي التحق بالعمل في مجال البناء عقب تخرجه عام 2010، ويعمل في موسم الفريكة منذ 16 عاما.
ويشير نواصرة إلى أنه لا يستطيع العمل داخل أراضي 48 كونه مرفوض أمنيا ويضطر أحيانا للدخول إليها تهريبا، وفي موسم الفريكة يعود للعمل بين النار لكسب قوت يومه.
"كل فرقة تضم ما لا يقل عن 4 من خريجي الجامعات أو الملتحقين بالدارسة الجامعية، من قلة الشغل نعمل وسط النار، الحرارة تصل إلى 40 أحيانا وكذلك نار حرق السنابل". يضيف نواصرة.
ووفق الجهاز المركزي للإحصاء، فإن معدل البطالة في فلسطين ارتفع عام 2018 ليصل حوالي 31% من بين الأفراد المشاركين في القوى العاملة مقارنة مع حوالي 28% في العام الذي سبقه، حيث ارتفع العدد من 377 ألف عاطل عن العمل عام 2017 إلى 426 ألف عاطل عن العمل العام الماضي.
ومنذ أكثر من عشرة أعوام يلتحق مراد عبد الله (28 عاما) بالعمل مع والده الذي يعمل في إنتاج الفريكة منذ 30 عاما، نظرا لتزايد الطلب عليها وافتتاح أسواق جديدة في الخارج للمنتج الفلسطيني، بحسب قوله.
وعام 2013، تخرج عبد الله من الجامعة تخصص محاسبة، إلا أن فرص العمل محدودة وفق قوله، ما اضطره للعمل داخل أراضي الـ48 بمجال البناء، والعودة مع بداية الموسم للعمل مع والده في إنتاج الفريكة.
ويشير عبد الله إلى أن خطوات تجهيز الفريكة تبدأ بقص سنابل القمح عبر آلات حديثة متطورة، ثم إحضارها للبيادر ونثرها على مساحات واسعة حتى تتسلل خيوط الشمس بين السنابل لعدة ساعات، ثم تبدأ عملية حرقها، وبعدها درسها ونقلها بأكياس إلى أفران التجفيف عند عدد من منتجي الفريكة، والمصانع التي تعمل في هذا المجال بالبلدة منذ عشرات السنين.
ويبين أن تلك المصانع تجري عملية تجفيف للفريكة على درجات حرارة عالية، ثم يجري عملية غربلتها وتنقيتها من الشوائب قبل أن تجرش على بأحجام مختلفة، وتعبأ بأكياس تحمل أسماء شركات في البلدة للسوق الفلسطيني والخارج.
ويستمر موسم الفريكة قرابة 40 يوما، تمتد بين شهري إبريل/نيسان ومايو/أيار.
ووفق عبد الله، فإن الإنتاج يعتمد على الموسم المطري، وأن استهلاك الغاز اللازم في شواء السنابل يزداد كلما ازدادت الرياح، حيث يستهلك يوميا في الأجواء الصافية 8 عبوات سعة 12 كغم، لكن تزداد تلك الكمية إلى 17 عبوة من ذات السعة في حال كانت هناك رياح.
ويشير مدير دائرة المحاصيل الحقلية في وزارة الزراعة وليد لحلوح، إلى أن إنتاج القمح هذا العام جيد نتيجة كميات الأمطار خاصة في مناطق شرق جنين وطوباس والأغوار الشمالية، إلا أن تلك الكميات تقل في السهول الداخلية كسهل "عرابة، صانور، برقين، قباطية" نتيجة تعرض أجزاء كبيرة منها للغرق.
وينوه إلى أن السنوات التي تصل كمية الأمطار فيها الى 600 ملم في سهل عرابة تكون الإنتاجية عالية في القمح أو الفريكة، حيث يصل 600 كغم قمح للدونم الواحد أو 750-800 كغم من الفريكة، إلا أن هذا العام بلغت كمية الأمطار في تلك المنطقة 1000ملم.
وتبلغ كلفة زراعة دونم القمح الواحد قرابة 150 دولارا أمريكيا وهي مرتفعة وفق لحلوح، ما يحد من ربح المزارع.
وتتراوح الأسعار الفريكة النية بين 2.75-3 شيقل وللمستهلك 5 شواقل، وتباع مجففة بسبعة شواقل بالجملة.