لا تدق الجرس.. أدخل حيفا
يامن نوباني
في لحظة ما، وأنت تعبر أزقة حيفا القديمة لأول مرة، ذات الملامح العربية، وإن طغى العمران الجديد وتبدلت الأسماء، وشعرت بالكم الهائل لغرباء يعبرون، يشرد ذهنك بعيدا، إلى ما قبل 71 عاماً، يمد إليك صاحب مطعم أبو شاكر فنجان قهوة عربية سادة بعد وجبة افطار شعبية (حمص وفول وفلافل)، ليوقظك قليلاً دون أن يدرك أنه يعيدك أكثر إلى ذاك الزمن.
تمد قدميك أكثر على الأرض، فالأرض أرضك، وأنت تجلس على كرسي لمطعم فلسطيني يعود للعام 1936، حبة الفلافل التي خطفتها من المقلى للتسلي بها ساخنة أكبر من الاحتلال بـ12 عاما! أمامك بيت مهجور نصفه مهدم، تعيد بنائه في ذاكرتك، ويمر عجائز كثر يلبسون الزي التراثي، ونساء يحملن سلال التسوق، أطفال عائدون من المدارس أو يلعبون الألعاب الشعبية في الأطراف والأزقة، تجار وموظفون يحملون حقائب صغيرة، عائلات تتنزه على شاطئ البحر، وعمال متعبون من شدة الحر.
حيفا لا تملك باباً، مشرعة على كافة الجهات، من البر تدخلها، من البحر تأتيها، من الكرمل وأشجاره تسقط عليها.
لا تخف من تسارع دقات قلبك، فهذا لا يعني أنك تعبت فجأة، إنما يدل على تمتعك بصحة جيدة، هي أعراض الحنين والحرمان الطويل فقط! وحيفا لا تملك عيناً سحرية، لتلتقط الداخل إليها، فقط تكتفي بالغمز مثل فتاة خجولة، تغمزك في البداية بوضوح ومباشرة لتراها كما هي، لما صارت عليه، ثم تبدأ بغمزك صوب عروبتها وفلسطينيتها، هُنا بيوت الأجداد، ومن بقي من الآباء والأحفاد، هنا المسجد، والكنيسة، والمدرسة، والحديقة، والبساتين، وقبل أن تتسع كل هذه الشوارع وتأتي المركبات الكثيرة والمتنوعة، كانت البلاد رحبة بأهلها، يعبرها الماشي على القدمين والمحمول على حصان أو جمل، وحافلات تحمل ركابها إلى عمان وبيروت وبغداد ودمشق والكويت.
في حيفا لا تدق الجرس، فالمدينة مدينتك، تعرف عتباتها، عتبة عتبة، وعنبها، دالية دالية، وبحرها، قطرة قطرة. فأنت حفيد من انتكبوا وهجروا منها، وبعضهم ما زال حياً ويروي لك حكايات المدينة، وبعضهم لا زال يعلق مفتاح بيته هناك، في برج البراجنة وعين الحلوة واليرموك وبلاطة وجنين ونور شمس. وإن ماتوا أو فقدوا مفاتيحهم، فقد تعلمت من نشرات الأخبار والشهداء وعتمة الزنازين والمظاهرات ورشق الحجارة، أن حيفا لك وحدك.
لعل أجمل من كتب جنونه في حيفا، ابنها الشاعر الراحل أحمد دحبور، حين قال: "أمامكم شخص دخل الجنّة، نعم، أنا زرت حيفا". وفي مقام آخر يشير إلى أن جبل الكرمل كان يتقدّم ويمشي كلّ سنة عشرة أمتار؛ فيجعله يتساءل عن كون استمراريّة مشي هذا الجبل، يعني مغادرته من حيفا نحو البحر. ويستطرد بسرد الحكّاء استدراك أمّه، وقولها إنّه في السنة المفردة، يمشي الجبل من اليمين إلى اليسار، وفي السنة المزدوجة يعود من اليسار إلى اليمين؛ ليبقى حارسًا لحيفا.
وفي العام 2016، قال دحبور: "لديّ نظرية تقول إن البشر نوعان: أناس من حيفا، وأناس من غير حيفا، ولذا أقول إن أمي هي التي ربطت حبلي السري بحيفا.. كانت أمي تقول إن المطر ينزل في حيفا على الزرع فقط، وليس على الناس، لذا تبقى حيفا خضراء دائمًا". "وحيفا هذه ليست مدينة، انها الجنة، ومن لا يصدق فليسأل أمي" .
وفي الجزء الثاني من سيرته الذاتية "ولدت هناك، ولدت هنا" يكتب مريد البرغوثي: أما حيفا فهي المدينة التي بناها الخيال كما يشتهي وما تشتهي المدينة لا تُبنى. الصعود إلى جبل الكرمل والنظر منه إلى المدينة وبحرها، صعودا إلى معنى الجمال. صعدت إلى الكرمل فقلت: أنا الآن فيها، في حيفا. هذه "مدينة جميلة". قل هذا ولا تزد. وإليها كتب غسان كنفاني: عائد إلى حيفا. وكتب على شاهد قبر اميل حبيبي: باقٍ في حيفا. وتتذكر قول الكاتبة اليهودية راشيل مزراحي في كتاب "أحدهم يموت والآخر أيضاً": كل البيوت الرائعة كانت ولا تزال عربيه.
في الجانب الآخر من حنيننا إلى حيفانا، التي ما زالت فيها أحياء وبيوت ووجوه ومحال تجارية ولمحة عربية، لا يخفى على أحد، أن حيفا تغيرت كثيراً، ويجري تغييرها وصولا لمحو معالمها العربية، وتشبه ما قاله دحبور حين زار حيفا في منتصف تسعينات القرن الماضي: لماذا لم أجد حيفا وقد لامستها؟”. ويثير السؤال: هل عدت؟ كيف؟ ويجيب: ليس في حيفا لمثلي الآن من ميناء .
يسرد المؤرخ والباحث الحيفاوي جوني منصور قصة مدينة حيفا في كتابه "حيفا الكلمة التي صارت مدينة": تأسست حيفا منذ عصور قديمة كقرية صيادين في موقع تل السمك، إلى الجهة الغربية من حيفا الحالية، واعتمد سكانها البالغ عددهم آنذاك اقل من 500 نسمة على الزراعة البعلية وصيد الأسماك ورعاية المواشي على سفوح الكرمل. لكن هذه القرية كانت معرضة بشكل دائم لهجمات قراصنة البحر مما أدى انخفاض عدد سكانها وانتقالهم تدريجيا إلى موقع حيفا العتيقة (محطة الكرمل لاحقاً) والتي تعرضت بدورها ايضا لهجمات القراصنة، إلى أن جاء حاكم الجليل الشيخ ظاهر العمر الزيداني وقرر نقل المدينة إلى الشرق وهدم حيفا العتيقة لمنع اقتراب القراصنة منها. وبنى الزيداني حيفا الجديدة بين ساحة الحناطير (ساحة الخمرة، والتي تعرف حاليا بساحة باريس) غرباً، والجامع الصغير شرقاً. وبلغ عدد سكانها عند تأسيسها نحو ألف نسمة، ليصل إلى ثلاثة آلاف في نهاية القرن الثامن عشر.
ويبين منصور: سقطت حيفا في 22 نيسان 1948 وتم ترحيل قرابة السبعين ألفًا من أهالي حيفا العرب، في حين تم حصر الباقين منهم الذين بلغ عددهم أقل من ثلاثة آلاف، في حيّ واحد تقريبًا يعرف بـ "وادي النسناس" إلى الجهة الغربية من حيفا القديمة. وهكذا بدأت حيفا العربية تتبدل معالمها العمرانية، بعدما تمّ هدم عشرات المباني وشق طرقات وشوارع اخترقت المدينة من شرقها إلى غربها، طامسة معالم عربية عديدة.
أما اليوم فيبلغ عدد سكان حيفا نحو 270 ألفًا، منهم 35 ألفًا من العرب (زاد عدد العرب الفلسطينيين في حيفا بفعل الهجرة الداخلية من قرى الجليل والمثلث طلبا للعمل والتعليم، وبفعل الزيادة الطبيعية). ويعيش معظم العرب الفلسطينيين في حيفا في أحياء عربية خاصة بهم، وقلّة منهم تعيش في أحياء مختلطة.
الأحياء العربية في حيفا: "حي وادي النسناس" ويعتبر من أبرز الأحياء العربية الباقية بعد عام النكبة في حيفا. نشأ الحي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر جرّاء انتقال عائلات عربية كثيرة من البلدة القديمة(حيفا داخل الأسوار). واستمر انتقال العائلات إلى هذا الحي بصورة غير منقطعة إلى وقوع النكبة.. حي عباس وينسب إلى عباس أفندي بهاء الله، وهو أحد مؤسسي الديانة البهائية التي اتخذت من حيفا مقرًا ومركزًا لها. عاش عباس أفندي في حيفا بعد وصوله إليها من عكا قادمًا من بلاد فارس(ايران). وتوفى في حيفا في عام 1921 ودُفن في الموقع الذي أقيمت فوقه قبة عباس، أي معبد البهائيين عند سفوح الكرمل المطلة على البحر.
الحليصا.. حي عربي يقع إلى الجهة الشرقية لحيفا. أما الاسم فيعتقد انه من "أحلست الأرض" أي أصبحت خضراء ملساء. ويشمل الحي: منطقة الحليصا ووادي روشميا والسوق المسمى حاليا ب(تلبيوت) وشارع العراق الذي يطلق عليها (كيبوتس غالويوت).
الكبابير.. قرية في الأصل. اعترفت بها سلطات الانتداب البريطاني وعيّنت مختارًا لها. ولكن في أعقاب النكبة الفلسطينية عام 1948 وسقوط حيفا بيد "الهاغاناه" ضمّت القرية إلى منطقة نفوذ بلدية حيفا، فأصبحت القرية حيًّا، كباقي أحياء المدينة.
وادي الجمال.. مصدر الاسم يعود إلى كون المنطقة ذاتها محطة لقوافل الجمال المحملة بالبضائع والقادمة من عكا، أو من سائر بلاد الشام باتجاه يافا، ومن ثم نحو غزة فمصر.
محطة الكرمل.. والاسم الأصلي للحي "العتيقة" حيث سكنها الإنسان منذ فترات قديمة. وفيها الكثير من الآثار والمغر. وأصبح اسم الحي "محطة الكرمل" في أعقاب وصول الخط الحديدي من مدينة القنطرة في مصر إلى طرف الحي فأقام الانجليز في 1918 محطة للقطار، ومن هنا جاء اسم الحي.
وادي الصليب.. حي فلسطيني أقيم خارج أسوار حيفا إلى الجهة الشرقية. تمّ الشروع ببناء بيوته الأولى في نهاية القرن التاسع عشر في أعقاب الاكتظاظ البشري في حيفا داخل الأسوار. واتسع الحي مع مرور الزمن وسكنت فيه مئات العائلات العربية الفلسطينية أو السورية لقرب الحي من مصلحة السكك الحديدية والميناء ومن ثم المنطقة الصناعية التي أقامتها حكومة الانتداب البريطاني. وصل عدد سكان هذا الحي مع عدد من الأحياء الصغيرة القريبة منه في فترة الانتداب وحتى وقوع النكبة إلى أكثر من عشرة آلاف فلسطيني. وتعرّض الحي إلى قصف مكثف من مدفعية الهاغاناه خلال معركة حيفا، وبالتالي نزحت عنه عائلات كثيرة ريثما تهدأ الحالة، ثم نفذت الهاغاناه خطة المقص على كامل الأحياء العربية في حيفا ومن ضمنها هذا الحي، فتمّ ترحيل سكانه باتجاه الميناء أو البوابة الشرقية حيث جهزت وسائل النقل البحرية والبرية لنقل المهجرين والمرحلين إلى لبنان.
ولما تمّ تفريغ الحي من سكانه الأصليين أحضرت "الهاغانا" والمؤسسات الصهيونية مئات العائلات اليهودية المهاجرة ووطنتها فيه. ولكن هؤلاء المهاجرين تعرّضوا إلى سياسات حكومة "بن غوريون" وبلدية حيفا التمييزية تجاههم، لكون معظمهم من أُصول يهودية عربية وشرقية. فاندلع تمرد قاده عدد من شباب الحي للمطالبة بتحسين ظروفهم الحياتية، إلا أن المؤسسة الرسمية واجهتهم بالقوة، ورحلّت العائلات عن الحي ووزعتهم في أحياء مختلفة من المدينة كي لا يعودوا إلى فعلتهم التمردية. وهكذا أصبح الحي فارغا من السكان عام 1959، إلى أن بادرت البلدية في مطلع الثمانينيات لوضع خطة تفصيلية لتحويل جزء من الحي إلى قرية للفنانين، إلا أن هذا المشروع باء بالفشل الذريع، وحاولت البلدية نقل بعض النشاطات الثقافية من الهادار والكرمل إلى الحي، ولكن هذه المحاولة لم تعش إلا فترة قصيرة. وهكذا تحول الحي إلى احد أكثر الأحياء المهملة في المدينة، وسُدت كافة البيوت فيه، إلى أن بدأ حارس أملاك الغائبين في مطلع القرن الحالي بعملية بيع عدد من العقارات لمستثمرين اسرائيليين ليقوموا بهدم البيوت القائمة وبناء مبان جديدة مكانها، أو ترميم بعض البيوت وإضافة طوابق عليها.
وهكذا يشهد الحي سياسة طمس معالمه العربية الفلسطينية، وتشويه موقعه، إن كان ذلك بهدم بيوت وشق طرقات أو بتغيير أسماء شوارعه العربية.