"مطلوب كيرن هايسود عربي" - الجزء الأول – اربون من نعيم الصهيونية
موفق مطر
بعد تحقيق أمل وهدف العودة لأرض الوطن (فلسطين) في منتصف العام 1996 قادما من تونس الحبيبة، سعيت لمتابعة الأحداث في المجتمع الاسرائيلي عبر برامج القناة الأولى والثانية التي كانت تبث باللغة العربية، وقد بلغت دهشتي ذروتها عندما بدات أشاهد على القناة الثانية ما بدا لي أنه شريط تلفزيوني عن التراث التونسي، لكن دهشتي بلغت ذروتها عندما بدأت ادرك أن كل ما ظهر في المشاهد من أزياء وملابس وآلات موسيقية وأطباق طعام وحلوى ومأكولات، وما اسمعه من غناء عربي وموسيقى هو تونسي أصيل لا تقليد فيه أبداً، ولكن الأشخاص (اسرائيليون يهود)، فلمعت في ذهني فكرة الجذور الثقافية الجامعة للمواطن العربي بغض النظر عن عقيدته، وتأكدت أن الجذور اذا ما تم احياؤها في بيئة مواطنة الحقيقية الصحيحة فإنها ستساعدنا كثيرا في تعزيز بناء مجتمعاتنا وشعوبنا، وتجسيد مبادئ وقوانين المواطنة عبر تطبيق وتكريس الحقوق الواجبات.
قرأت كتاب الرئيس محمود عباس المنشور على موقع سيادته على الشبكة العنكبوتية (الانترنت) تحت عنوان: (مطلوب كيرن هايسود عربي) واثارت المعلومات التي كانت بمثابة منارات ترشدنا الى موانئ البحث والمعرفة لنعرف حقيقة المجتمع الاسرائيلي، التي اذا ما تجردنا من المواقف المسبقة، وقرأنا الأحداث والوقائع والأرقام والبينات بعقل مفتوح فاننا سنتوصل الى اكتشافات ستعيننا على فهم قضيتنا اكثر، واستبيان السبل والطرائق الأنسب للانتصار لها، وابداع وسائل نضال غير المعروفة سلفا، نظرا لخصوصية القضية الفلسطينية، وخصوصية الحركة الصهيونية التي ما صنعت وأنشئت الا لتكون بديلا عن وجودنا.
قبل الحديث عن الفكرة التي طرحها الرئيس في كتابه، وجب علينا تسليط الضوء على ذراعا الحركة الصهيونية الى جانب الوكالة اليهودية وهما (الكيرن كايميت والكيرن هايسود) حيث كان الاسم الأول لجمعية تعمل على تهيئة اليهود في العالم لقبول أفكار الحركة الصهيونية، فيما الهايسود بمثابة شركة تولت امر اقتلاع اليهود من مواطنهم وبلادهم الأصلية، وتأمين وصولهم واسكانهم فيما وصفته الحركة الصهيونية بارض الميعاد (فلسطين) وذلك تحت حماية الدول الاستعمارية وعلى رأسها دولة امبراطورية زمانها بريطانيا العظمى التي كانت دولة الاستعمار والانتداب على فلسطين.. حيث منحت بريطانيا حينها الصندوق اراضي فلسطينية حكومية (املاك عامة) وقدمتها كهبة للصندوق.
الكايميت والهايسود اشتغلا بمستويين متتابعين لاستثمار اموال الصندوق اليهودي الذي انشئ بقرار من المؤتمر اليهودي الصهيوني الخامس في شراء الأراضي في كل من سوريا وفلسطين، ثم انتقلت مهمة الهايسود الى مشاريع انمائية وانشاء قرى عمالية وزراعية (كيبوتسات) التي تحولت فيما بعد الى مستوطنات استعمارية، ومن ابرز مؤسسي هذا الصندوق حاييم وايزمن، وفلاديمير جابوتنسكي، حيث عمل المسؤولون عن هذا الصندوق على تمويل نشاطات الهجرة والتعليم والاسكان وشراء الأسلحة، وتأسيس حوالي 820 تجمعا وتمويل بنك للرهن العقاري وشركة تنمية للأراضي الزراعية ومؤسسة الاستيطان في القرى والضواحي واستثمار بوتاس فلسطين، وانشاء بنك ليئومي، ومؤسسة افندار للاسكان، وشركة للملاحة تحت اسم تسيم، وشركة العال للطيران، ومبنى للهستدروت ومؤسسة العقود، وتبين لنا مشاريع الهايسود أنه عمل على ترسيخ قواعد دولة كأرضية لغرس روح الحركة الصهيونية فيها (المهاجرين) فكلمة المرادفة للصهيونية كما يبين الرئيس في كتبه العديدة هي الهجرة وبمعنى أصح اقتلاع اليهود على إختلاف أعراقهم وجنسياتهم ولغاتهم وثقافاتهم من أوطانهم وبلدانهم الأصلية وترحيلهم الى فلسطين أرض الشعب الفلسطيني الذي أنكرت الحركة الصهيونية وجوده، مع التأكيد كما يكتب الرئيس أبو مازن بان الحركة الصهيونية بصندوقها القومي اليهودي وبالوكالة اليهودية وبالهايسود ماكان لها استيفاء مقومات وتكاليف انشاء مؤسسات دولة، لأنها دون ذلك اكثر بكثير، لكن الدعم الهائل من دول استعمارية كانت وما زالت معنية بايجاد قاعدة متقدمة لها في المنطقة، والتخلص من المشكلة اليهودية التي نشأت عندها، كان له الدور الأعظم في انشاء اسرائيل التي تعتبر جتى اليوم دولة ناقصة وفق معايير القانون الدولي.
يورد الرئيس في كتابه الذي كتبه في الثمانينيات أمثلة عديدة حول عدم تمكن الحركة الصهيونية من تحقيق كامل اهدافها، حيث سجل ما صرح به الناطق الرسمي باسم الوكالة اليهودية عام 1980 حول تزايد نسبة تساقط المهاجرين التي بلغت حينها 77% اذ قال حينها: "لا نشعر بخيبة امل بسبب اعداد اليهود المهاجرين ولكن عدم هجرة العدد الكافي من اليهود الى اسرائيل دليل على ان اهداف الحركة الصهيونية لم تتحقق، وقد نشرت التايمز تصريحه في 21-12- 1980".
الرئيس ابو مازن اعتبر المهاجرين بالاتجاه المعاكس اي من دولة الحلم اليهودي كما ارادوها واطلقوا عليها اسم (اسرائيل) هاربين من (نعيم الصهيونية) الكاذب بعد ان اكتشف هؤلاء أنهم مجرد ادوات ووقود وضحايا المشروع الصهيوني الذي لا يحقق إلا اهداف المشاريع الاستعمارية الكبرى ويعتبر اليهود في العالم كمستخدمين لا أكثر.
أما النائب من كتلة الليكود بوني ميلود فقد قال في تلك السنوات: "لأول مرة منذ قيام دولة اسرائيل تصبح دولة تصدير للمهاجرين اليهود بدل استقبالهم". أما النائب في الكنيست جيئولا كوهين فقد وصفتهم بالخونة وتوعدتهم بسن قانون لملاحقتهم جسديا واعتبرت المهاجرين من اسرائيل خطرا كالعرب وأكثر من الذين يريدون طحن اسرائيل باسنانهم "هكذا قالت! ومن البديهي ان يجن جنون جيئولا اذا اخبرها وزيرا المالية الاسرائيلي والاسكان حينها أن اسرائيل تفقد رؤوسا كبيرة اكثرهم اساتذة جامعيين واطباء ومهندسين".
قبل الانتهاء من الجزء الأول من هذا المقال وقبل الذهاب عميقا في عنوان كتاب الرئيس محمود عباس مطلوب كيرن هايسود عربي، سننقل لكم ما جاء فيه عن قصة عالم الذرة الكندي اليهودي (هنري شتوفونيه) الذي كان يتقاضى ارقاما خيالية في بلده الأصلي وماذا قال في العام 1960 مبررا هجرته من كندا الى اسرائيل: "لقد خسرنا المال من اجل الحلم، لكنه بعد عشرين عاما عاد الى كندا وعندما سئل اجاب: لا اريد ان ابقى متسولا للأبد".
نعم لقد فقدت العقيدة الصهيونية بريقها بعد تجربة عيش اليهود المضللين والمغرر بهم فيها، فالآلام والتوتر واللااستقرار والهواجس الأمنية والخوف على الحياة على مدار الساعة والتمييز العنصري، كلها عوامل ستمكننا إذا وظفنا عقولنا وأموالنا العربية بشكل مبرمج وممنهج من اضعاف اسطورة الاستيطان الصهيوني الاستعماري ان لم يكن جعله خاويا بلا عناصر بشرية، واصابة قلب ودماغ الحركة الصهيونية (الهجرة) بالشلل وتحديدا من اليهود السفارديم الذين معظمهم عرب جيء بهم من اقطار عربية على عربة مؤامرة محكمة سنتحدث عنها في الجزء الآخر من المقال.