الحاجة فاطمة، وفتح، ومحمود درويش
كتب: رئيس تحرير صحيفة "الحياة الجديدة"
لعلها في التسعين من عمرها، لوجهها هوية أرضها وطبعها، بسمرته الملوحة بالطيبة، وأخاديده التي شقها عمل السنين فيه، كما تشق المحاريث الأراضي الصعبة، دلالة على تحديها لمختلف أنواع التعب والشقاء والمعاناة، التي منها المحبة المكلفة، فَمُها خال من الأسنان تمامًا، لكنه مُفعم بالهتاف الفتحاوي، الذي راح يسحق افتراءات وأكاذيب صناع الكراهية والفتنة، التي روجوها ضد "فتح"، في محاولات محمومة لاغتيالها..!!! انها الحاجة فاطمة، التي خرجت وهي تحمل راية "فتح" بلونها الأصفر البرتقالي، التي هي في التاريخ راية صلاح الدين، لتحيي ذكرى انطلاقتها الخامسة والخمسين، مع جماهير غزة التي اجتاحت لإحياء هذه الذكرى المجيدة، شوارع غزة كمثل سيل عظيم، راح يجرف كل فبركات الخديعة الحمساوية، لكن ما علاقة الحاجة الجليلة بشاعر فلسطين الأكبر محمود درويش ..؟؟ اقرأوا رائعته "الخروج من ساحل المتوسط" ستعرفون هذه العلاقة التي لا مصادفة فيها، بدلالة هذا الشطر الذي قال فيه "غزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعلب" والبرتقال هنا أراده الشاعر، كناية عن الموقف الوطني النضالي، الذي لم تبعه غزة، ولن تبيعه أبدا ولا بأي ثمن، مثلما انها لن تساوم عليه، ولن تقايض به اية بضاعة، مهما تجملت بأكثر أنواع ورق السلوفان لمعانا (..!!!) وخاصة اليوم هذه البضاعة الفاسدة، التي تغلفها حماس بسلوفان تفاهمات "التهدئة" التي لا يصح وصفها بعد الآن، سوى انها تفاهمات التنسيق الأمني الخياني، الهادفة لوأد المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، المشروع الذي يردد قائده الرئيس أبو مازن ان القدس ليست للبيع ولن تكون كذلك أبدا، وهذا هو جوهر الموقف الوطني غير القابل للبيع لأهلنا في غزة التي لم تخرج بآلافها المؤلفة، لتحيي الذكرى الخامسة والخمسين، لانطلاقة فتح، انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، إلا لكي تؤكد على حقيقة رسوخ موقفها الوطني، بوصفه دمها المعلب، كمثل برتقالها الذي ظل عصيا على التجارة الحرام في انفاق الامارة الاخونجية، ومساراتها الاسرائيلية، وأحابيل صرافها الآلي الذي جعله نتنياهو قبلة "للمتقاومين"..!!!
لا حاجة لنا بنص السياسة لنقول شيئا عن مشهد غزة في ذكرى الانطلاقة، سيظل هذا النص عاجزًا عن الاحاطة بهذا المشهد التاريخي، الذي سيحتاح الى شاعر الحماسة أبي تمام، ليقول عنه ما يستحق من وصف وتعبير، من رأى منكم التسعينية الحاجة فاطمة وهي تردد هتاف "لا واحد ولا اثنين، فتح فوق المليونين "سيرجو قصيدة من هذا الشاعر البليغ، أو لعله سيرجو لغة "هوميروس" الذي كتب الإلياذة والأوديسة، فالتسعينية فاطمة تروي ما لا يروى بغير لغة الأساطير.
ولا شك هي "فتح" التي جعلت مشهدًا كهذا ممكنًا، حين جعلت الانتماء إليها بالفطرة الوطنية، وبالمحبة والحنو والطمأنينة، قبل أية نظرية، وأي بيان، بحكم انها جاءت بسيطة الكلام الآدمي، وواضحة الفعل النضالي، بواقعيته السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وبحكم حساباتها التي كانت هي دومًا حسابات القرايا، لا حسابات السرايا، أكثر من ذلك حين جعلت فتح الانتماء لفلسطين، كمثل انتماء الدم لعروقه، والقلب لنبضه، والروح لتطلعاتها وآمالها، وزمن فتح يظل هو زمن اليفاعة والحيوية، بدلالة التسعينية الحاجة فاطمة، التي لها في هذا الزمن، زميلات كثر، من أم ناصر أبو حميد، الى الحاجة نعمة الجوراني أم العبد، سيدات الساحات حاميات الوطيس، نجيبات الحسب والنسب، كمثل بنات عبد مناف.
لا شك هي "فتح" ولا شك هي غزة "المكوفلة" بنار الإرادة الوطنية الحرة، ومن لا يدرك هذه الحقيقة، لن يرى مشهد الاحتفال بذكرى انطلاقة فتح، انطلاقة الثورة، الخامسة والخمسين في غزة، بمعناه الملحمي الأوديسي، والذي باتت الحاجة فاطمة أيقونته هذا العام، فلها ننحني تقديرًا واعتزازا، ولكل أهلنا الغزيين في هذا المشهد التاريخي العظيم، وهذه هي فتح: من الواقع الى الأسطورة، ومن الأسطورة الى الواقع.