الأخطاء الطبية.. التحديات والمواجهة
عبير البرغوثي
أطلقت منظمة الصحة العالمية مبادرة عالمية منذ عام 2017 تحت عنوان "التحدي العالمي لسلامة المريض- سلامة الأدوية"، وتهدف هذه المبادرة إلى تحسين طريقة وصف الأدوية وتوزيعها واستهلاكها، فضلا عن زيادة معرفة الناس بالمخاطر المرتبطة بالاستخدام غير السليم للأدوية. والى جانب ذلك أعلنت الأمم المتحدة يوم السابع عشر من أيلول اعتبارًا من عام 2019 يوماً عالمياً لسلامة المرضى، اضافة للعديد من الأنشطة التي تقوم بها الجهات الوطنية والاقليمية لتعزيز ثقافة أمن وسلامة المرضى وتطوير إجراءات سلامة المريض في كافة مراحل العلاج.
رغم ذلك لا يكاد يمر يوم إلا ونتلقى خبرًا عن حدث مأساوي لخطأ طبي هنا وهناك سواء على صعيد محلي واقليمي أو دولي، مسلسل متواصل دون انقطاع، وتكلفة بشرية ومالية تتراكم وترتفع وتيرتها من عام الى آخر، فوفق منظمة الصحة العالمية يتضرر 4 من كل 10 مرضى فى مرافق الرعاية ما يساهم فى وفاة نحو 2.6 مليون شخص سنويا جراء ذلك على مستوى العالم، وفي الوقت نفسه تشير المنظمة نفسها الى أن التكلفة المرتبطة بأخطاء الدواء تقدر بنحو 42 مليار دولار سنويا أو ما يقرب من 1 من إجمالي الإنفاق العالمي على الصحة وفقاً لنفس المصدر.
أرقام مذهلة وفي غاية الخطورة وفق المصادر الدولية الرسمية، فهي حصد للأرواح وهدر للموارد البشرية، وتزداد خطورتها في الدول التي ترتفع بها نسب الإهمال الطبي وتعاني من الفقر وتدني مستويات المعيشة وارتفاع الدين العام، في هكذا ظروف تكون الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية مركبة على كافة المستويات.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية ولتحاليل الخبراء في هذا المجال، فإن الأخطاء الطبية وأخطاء الأدوية ترتبط بعدة عوامل مثل إرهاق العاملين الصحيين، ونقص الموظفين، وضعف التدريب، والمعلومات الخاطئة التي تعطى للمرضى وظروف العمل في المؤسسات الطبية، وكذلك العوامل المرتبطة بخصوصية الدول وخاصة العمل تحت ضغوط يومية كإجراءات الاحتلال وغيرها في الحالة الفلسطينية، الى جانب ذلك فإن الأخطاء الطبية تبدأ من التشخيص، مرورًا بوصف الدواء وصولاً الى اجراء العمليات والتدخلات الطبية الأخرى وحتى أخطاء مرحلة تقييم التعافي، وما يزيد من خطورة هذه الأمور تلك المخاطر المرتبطة بالدواء نفسه من حيث الوصف والتوزيع والإشراف والرصد والاستخدام والالتزام ومصادر تلك الادوية وظروف حفظها والرقابة المسؤولة عن سلامتها في كل الظروف.
يشكل اعلان يوم السابع عشر من أيلول من كل عام مناسبة مهمة للتذكير والتأكيد على أهمية سلامة المريض خلال رحلة علاجه، وهي دلالة على أهمية قيام الدول ممثلة بحكوماتها على مستوى دول العالم وكافة مكونات النظام الصحي بكافة الاجراءات التي تجعل الرعاية الصحية أكثر أمانا، إلى جانب تعزيز سلامة المرضى, وزيادة الثقة بالنظام الصحي باعتباره محطة للعلاج وليس مكاناً لنهاية الحياة.
وفي الواقع الفلسطيني تعتبر هذه القضية من المواضيع ذات الأهمية الحيوية كونها تتعلق بتوفير أفضل مستويات العلاج والأمن الطبي رغم كل الظروف، وهي تجسيد للشعار العالمي في هذا المجال وهو "سلامة المرضى أولوية صحية" لأن حماية حياة انسان يحمي أسرة وإنهاء حياة انسان بسبب خطأ طبي بشري يهدم مجتمعًا ويهدم الثقة في البنية الطبية مهما كانت مبانيها حديثة!
لكن للأسف تكررت العديد من حالات الأخطاء الطبية خلال الفترة الماضية على الصعيد الفلسطيني التي تركت تساؤلات كبيرة عن طبيعة تلك الحالات، فمن وجهة نظر الجهات الطبية تُصنف تلك الحالات خارج نطاق الأخطاء الطبية وفق مبررات تستند اليها تلك الجهات، وعلى مستوى المرضى وأسرهم فإنهم ينظرون للجهات الطبية بعين المسؤولية، ولسان حالهم يقول: "لقد وصلكم المريض وهو على قيد الحياة.. لكنه غادر مفارقاً لها"!
ما أصعب تلك اللحظات التي تواجهها الأسرة التي تفقد معيلها الوحيد بسبب إهمال مقصود أو غير مقصود، ما أقسى أن تفقد تلك الاسرة ربة البيت ومدبرة شؤونه بسبب زيادة في جرعة التخدير قبيل عملية بسيطة تتكرر مئات المرات دون أخطاء! والأصعب أن يصبح الابن الوحيد الذي كان يملأ الدنيا ضجيجًا بحركاته ونشاطه قبل أن يتحول الى كومة لحم لخطأ خلال عملية "استئصال اللوزتين", إنها مآس للأسر والافراد والمجتمع في نهاية المطاف، وصحة المجتمع من صحة أبنائه وسلامة مؤسساته، طبية كانت أم غير ذلك، والمؤسسات وجدت لتقديم خدمة للانسان، وتوفير بيئة ترعاه وتحافظ على صحته وسلامته، لأن أي تراجع في ثقة المواطن في مؤسساته الطبية وغيرها سيكون بمثابة السوسة التي تنخر أسس سلامة نظامنا الصحي بشكل عام، لذلك الموضوع ليس شكوى ومحاولة اثبات مسؤولية الخطأ، ومحاسبة المخطئ رغم أهمية ذلك، بقدر ما هو البحث عن نقاط الضعف الكامنة في سلسلة العملية الطبية ووضع الاجراءات والخطوات اللازمة لعلاج الضعف وحماية المريض والحفاظ على سلامته لأن حياة الانسان لدينا أهم وأغلى من كل شيء.
حماية المريض ليست مجرد حماية لفرد بهذا الاجراء أو ذاك، إنها عبارة عن منظومة وحوكمة متكاملة لرحلة العلاج من البداية الى النهاية، حوكمة للاجراءات والمسؤوليات وضمان اتخاذ اقصى ما يمكن لحماية الانسان المريض، وتجنب الصدفة أو الخطأ أو السهو، أو تدنى جودة المواد الطبية، أو تجنب لحظة المفاجأة بنقصها عند الحاجة اليها، إنها عملية مشتركة بين مكونات المنظومة الصحية لزيادة الوعي بقيمة الإنسان، وتجنب عواقب البحث عن المبررات والأعذار لتفسير الخطأ القاتل، حينما لا ينفع الندم، إنها حوكمة لإجراءات الفحص والتفتيش والتحقق من سلامة كل شيء والجاهزية لكل شيء في الأوقات العادية وفي أوقات الضغط والطوارئ والأزمات، لأنه لا يوجد ظرف مهما كان يعطي تصريحًا لأي من أطراف المنظومة الطبية للتقصير أو ارتكاب الأخطاء لأعذار مهما كانت، القسم الطبي يرتكز على خدمة المرضى ومساعدتهم دون تمييز وفي كل الظروف، وهذا ليس معروفاً او جميلاً يقدمه هذا الطبيب او ذاك الممرض، انها محتوى رسالة الطب النبيلة منذ عصور مضت.
ترتبط جودة الخدمات الطبية والصحية بتعزيز صحة المجتمع وتحسين مستوى الرضا العام عن جودة الخدمات الصحية المقدمة للمجتمع في كل الظروف، وازدادت أهميتها على المستويين العالمي والوطني في ظل أجندة التنمية العالمية 2030، لأن سلامة المرضى تلعب دورًا مهمًا فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتغطية الصحية الشاملة، وتشجيع الهيئات الحكومية على دعم الاستراتيجية الوطنية لصحة المجتمع وسلامة أفراده والارتقاء بمستوى وجودة الخدمات الصحية وضمان سلامة المرضى في كل الظروف، والارتقاء بالإجراءات التطويرية لتقليل الأخطاء الطبية يساهم في جهود الحكومة للنهوض بقطاع الرعاية الصحية لتقليل مخاطر الأذى للمرضى، وتحديد نقاط التحسين الممكنة سواء من خلال تسليط الضوء على موضوع التدريب والتعليم فى مجال سلامة المرضى ليشمل كافة المعنيين، انها ثقافة مجتمع وليست مجرد ارشادات عامة على ورقة تعلق على مدخل المستشفيات تحت عنوان "اعرف حقوقك"!
ينبغي التأكيد في هذا المجال أن تكلفة الأخطاء الطبية أعلى مليون مرة من تكلفة تنفيذ تدابير السلامة للمرضى خلال علاجهم، والخسائر ليست في توفير متطلبات الارتقاء بجودة الخدمات الصحية والطبية، بل التكلفة الفعلية هي عدم القدرة على إعادة الأرواح للطاقات والموارد البشرية التي ذهبت دون رجعة بسبب خلل أو إهمال او خطأ في تشخيص الحالة الطبية الفعلية للمريض والأدوية الموصوفة للعلاج.