الرؤية ..والقرار
كتب: رئيس تحرير صحيفة "الحياة الجديدة"
نعرف الرئيس أبو مازن أنه صاحب فكر سياسي وطني وإنساني، لا يقبل التجريب، ولا يرفض الحداثة في ضرورتها المعرفية، وعلى هذا فإن الرئيس أبو مازن ليس ماركسيا، ولا ماويا، ولا تروتسكيا، ولا لبراليا، وإنما هو الوطني في صياغات خصوصية التجربة الفلسطينية، والواقعي ببرنامج نضالي، ما يجعله صاحب سياسات بالغة الوطنية، وصاحب قراءات واقعية لموازين القوى في لحظتها السائدة، والأهم كما نلمس، أنه صاحب رؤى استشرافية، ترى متغيرات العالم، وأزماته قبل وقوعها، فيحذر من الأزمات وينبه لمخاطرها، ويسعى في الوقت ذاته إلى التماهي مع المتغيرات العالمية، والتعاطي مع معطياتها، ولكن دائما وفق التطلعات والاهداف الوطنية الفلسطينية.
ومن الأزمات التي حذر الرئيس أبو مازن من مخاطرها على المجتمع الدولي بأسره، الأزمة التي قال إن ما يسمى صفقة القرن ستشكلها، وفي الوقت ذاته كان يرى ولا شك أن هذه الأزمة ستطال الولايات المتحدة ذاتها، على هذا النحو أو ذاك، لأن في تداعيات السياسات الاستعلائية، والعنصرية، والاحتكارية إن صح التعبير، تفجرات يصعب تحديد أماكنها واشكالها، ولأن الامبرالية حسب مقولة الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ "نمر من ورق" وكان يقصد طبعا الولايات المتحدة الأميركية، فإن تفجرات تلك السياسات ستأتي عليها طال الزمن أم قصر، خاصة وان هذه السياسات لم تقرأ هذه المقولة في بعدها الاجتماعي، إذ القوة بالنسبة للولايات المتحدة، بادارتها الراهنة تحديدا، هي قوة الغطرسة التي يؤمنها العسكر ورأس المال المتوحش، فلا تحسب تاليا اي حساب للقوة الاجتماعية والاخلاقية، ما يجعل الامبريالية نمرا من ورق العساكر والاحتكارات الرأسمالية، الذي طالما اكد التاريخ انه ورق سريعا ما يتمزق ويتطاير نتفا في فضاء الطبيعة الاجتماعية للشعوب، التي لا تتحالف إلا مع مصالح حياتها العامة، ومنظوماتها الامنية التي تحقق لها هذه المصالح، وتظل مشروعة بقدر قيمها الانسانية التي تؤمن لها حياة الحرية والعدالة والكرامة الاجتماعية.
ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة، يؤكد صواب المقولة الماوية حيث الطبيعة الاجتماعية تعلن حضورها الساطع، وبتحالفات قواها المدنية المختلفة، للتصدي للعنصرية المتوحشة التي باتت تهدد ابسط المنظومات الامنية التي تسعى اليها الطبيعة الاجتماعية، هذه الطبيعة التي حتى النظم الاشتراكية لم تنتبه لها ما أدى إلى انهيار منظومتها الأممية، بانهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا يعني أن الولايات المتحدة باتت تدخل إلى أزمتها الوجودية العميقة، وحسب تعبير الكاتب والباحث العراقي فاضل الربيعي فإنها باتت تدخل الى "اللحظة السوفييتية" ولا نشك أن الرئيس أبو مازن بفكره الوطني، واستشرافه المستقبلي، كان يرى ذلك بصورة أو بأخرى، غير أن هذه الرؤية لم تكن وراء رفض الرئيس أبو مازن لما يسمى صفقة القرن، وإنما لأن هذه الصفقة بحد ذاتها صفقة فاسدة، وصفقة مدمرة لكل ما انطوت عليه الشرعية الدولية، وقوانينها ولكل ما هو منطقي وعقلاني واخلاقي في علاقات المجتمع الدولي، وبمعنى ان الرئيس أبو مازن لم يستسهل التصدي لهذه الصفقة بحكم انها صفقة النمر الورقي، الذي ليس بوسعه الخرمشة، فهذا النمر ما زال يمتلك ورق العساكر، وتحالفات رأس المال المتوحش، التي باتت تتوغل اكثر واكثر في طبيعتها العنصرية، لكنها "اللحظة السوفييتية" ولا نهاية لتاريخ الحقبة الامبريالية بعولمتها المخادعة، قبل ان تنتج هذه اللحظة مخرجاتها الحتمية.