وباء عابر لزمن فلسطين أخطره الصهيوني
باسم برهوم
قبل أسبوع وصلني في البريد العدد 123 لمجلة الدراسات الفلسطينية، نظرت للغلاف وفهمت أنه عدد خاص عن جائحة الكورونا، وحمل عنوان "زمن الوباء". ولأننا نعيش تحت ضغوط الجائحة، وضغوط وأوبئة السياسة، وضعت العدد جانبا من دون أن أكلف نفسي تصفحه ومعرفة طبيعة موضوعاته.
صباح الجمعة الفائت قررت أن أتصفح عدد المجلة، واكتشفت أن موضوعاته تتناول الأوبئة التي مرت على فلسطين عبر التاريخ، شدتني بعض العناوين وبدأت أقرأ، ولم أتوقف على امتداد أربع ساعات. ولأهمية وطرافة بعض المعلومات رغبت في مشاركتها مع القارئ ليس بهدف إطلاعه وإنما إنعاش للذاكرة.
قصة طاعون يافا إبان حملة نابليون بونابرت، التي تكشف طبيعة الفكر الاستشراقي الأوروبي، بالإضافة للدعاية التي تستخدم لتعظيم القادة.
تناول صبحي حديدي هذا الموضوع عبر لوحة للرسام الفرنسي أنطوان جان غرو، الذي عاصر بونابرت ورسم حروبه دون أن يشارك بأي منها. في إطار تعظيم وأنسنة هذا القائد، رسم غرو لوحة كبيرة تصور زيارة وهمية لـ بونابرت في يافا لجنوده المصابين بالطاعون، اللوحة موجودة في متحف اللوفر في باريس. والفكرة هنا أن لا الرسام غرو زار يافا والشرق كله، ولا نابليون زار جنوده بل تركهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم.
المعلومة الأخرى أن الإنفلونزا الإسبانية قد وصلت إلى فلسطين والمنطقة عام 1918 مع الجنرال البريطاني اللنبي وجنوده، مع سفن الأسطول البريطاني. الطريف بأمر الإنفلونزا الإسبانية إن الدبلوماسي البريطاني سايكس، المسؤول مع الفرنسي بيكو عن تجزئة الوطن العربي قد مات مصابا بهذا الوباء. بالمناسبة فإن هذا الفيروس أخذ هذا الاسم "الإنفلونزا الإسبانية"، لأن الصحف الإسبانية هي أول من تحدث عنه، ولم تكن إسبانيا مصدره، كما حصد هذا الوباء أكثر من 50 مليون إنسان، وبعض المصادر تقول إنه ربما حصد 100 مليون حيث لم تكن هناك طرق دقيقة للتسجيل. كما أن هناك تقارير ودراسات تحدثت أن هذا الوباء قد بدأ في الولايات المتحدة، في معسكرات تدريب الجنود، وانتقل معهم إلى أوروبا ومن ثم للعالم.
وبالمقارنة مع بونابرت، الذي ترك جنوده يموتون من الطاعون في يافا، فإن القائد العربي أبو عبيدة بن الجراح، رفض ترك جنوده في بلدة عمواس، في فلسطين، التي كان قد تفشى فيها وباء الطاعون ومات مع من مات منهم بالوباء. في قصة بن الجراح، التي تناولها ناهد جعفر أشار إلى محاولة الخليفة عمر بن الخطاب لزيارة بلاد الشام، وعندما وصل على مشارفها استقبله وفد من قادة الفتح الإسلامي، ومن ضمنهم أبو عبيدة، انقسم الوفد بين من يدعو بن الخطاب للعودة لأن الوباء يجتاح البلاد، وبين من دعاه لتكملة رحلته، إلا أن كفة من طلب منه العودة كانت هي الأرجح. أطلق العرب على هذا العام الذي انتشر فيه وباء الطاعون في فلسطين ومعظم بلاد الشام، عام الرمادة، لشدة الجفاف ولطبيعة الريح التي كانت محملة بالأتربة والغبار.
بغض النظر عن الأوبئة التي شهدتها فلسطين عبر التاريخ، فإن الوباء الأخطر والأشد هو وباء المشروع الصهيوني. والاحتلال المتواصل منذ أكثر من مئة عام، فسفن أسطول الجنرال اللنبي لم تجلب معها وباء الإنفلونزا الإسبانية، التي حصدت آلاف الفلسطينيين فحسب، بل جلبت أيضا وباء الصهيونية، الذي ما زال يفتك بحياتنا حتى الآن.