عافية السوق، أم عافية الناس!
كتب رئيس تحرير صحيفة الحياة الجديدة
على الذين عارضوا، ويعارضون اليوم الاجراءات الحكومية، الرامية للحد من تفشي جائحة "الكورونا" التي تهدد الحياة بالمرض والموت، أن يواجهوا هذا السؤال الأخلاقي: ترى أيهما أهم، وأكثر إنسانية وتقوى، في مواجهة هذه الجائحة: عافية السوق، وصحة السلعة، أم عافية الناس، وصحتهم؟
لا نعتقد ولن نعتقد أن الجواب سيكون لصالح السوق والسلعة، لا بل إن المسؤولية الأخلاقية، والدينية قبل الوطنية، لن ترى جوابا غير جواب الحق، وقد جاء في الكتاب العزيز "ولا تلقوا بأيدكم الى التهلكة"، والتفسير لهذه الآية الكريمة يقول: إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب النجاة، وأن يحذر المعاصي التي تقود الى التهلكة التي هي اليوم جائحة "الكورونا" وعدم الالتزام بإجراءات الوقاية، وقرارات الحكومة، وبروتوكولات وزارة الصحة، هو تماما إلقاء اليد في هذه التهلكة!
لم تستهدف حالة الطوارئ التي أعلنها الرئيس أبو مازن، وجدد لها غير مرة، والتي استندت إليها الحكومة في إجراءاتها، وقراراتها، ومنها الإغلاق الشامل للمحافظات التي تتزايد فيها الإصابات بفيروس"الكورونا"، نقول لم تستهدف حالة الطوارئ، وهذه الإجراءات، سوى الأخذ بأسباب النجاة، بتعزيز إجراءات وسبل الوقاية من هذا الفيروس اللعين، الذي يهدد حياة الناس أجمعين بالمرض المميت.
في العالم أجمع إجراءات الإغلاق أصبحت من بديهيات سبل الوقاية، وأثبتت التجربة الفلسطينية في الإغلاق الأول الذي استمر لثلاثين يوما، نجاعة لافتة في محاربة الفيروس الخطير، فلم نشهد حينها أي تزايد في عدد الإصابات، والتي ظلت في مرتبتها العشرية.
وصحيح ان يمرض السوق معضلة، لكن المعضلة الأخطر أن يهيمن المرض على الناس، فلا يستطيعون تسوقا حتى في سوق متعاف إن وجد! والحقيقة ان عافية الناس، وعلى مختلف مستويات ومعاني العافية، هي من يؤمن للسوق في المحصلة عافيته.
لا نعتقد أن هذه المعرفة تغيب عن أحد، فلماذا هذا الاعتراض على قرارات الإغلاق إذن..؟ القرارات التي تظل رهن الحالة الوبائية، فما ان تتراجع هذه الحالة، حتى لا يعود الإغلاق ممكنا! لا تريد الحكومة أن تستعرض سلطتها بهذه القرارات، لكنها مهماتها وواجباتها التي تتصدى لها، انطلاقا من مسؤولياتها المنصوص عليها في شروط، وقوانين، ومفاهيم، وقيم العقد الاجتماعي، لكن، وعلى ما يبدو أن بعض الاعتراض ليس اعتراضا في حقيقته وغاياته، وإنما تصدٍّ لدور الحكومة ومهماتها وقراراتها، وأبعد من ذلك تصدٍّ لحضور السلطة الوطنية في ساحة مسؤولياتها الأخلاقية، والوطنية، لضرب علاقاتها مع جماهير شعبها، وإعادتنا إلى حالة الفلتان الأمني، وهذا ما يريده الاحتلال الاسرائيلي لنا، وما يعمل على تعميمه!
وبالقطع، ليس كل اعتراض عملا مشبوها، أو مدانا، لكن هذا الذي يقوده البعض لأن يستند اليوم الى جدران مستوطنة "كريات أربع" في خليل الرحمن، هو الذي يجب أن يلاحق، وبالقانون، والقيم الوطنية معا.
بالتجربة المكلفة يعرف الفلسطينيون، ان الحرام بيّن، والحلال بيّن، ويعرفون وهم السائرون في دروب الحرية، ان الدفاع عن عافية الإنسان أهم بما لا يقاس من الدفاع عن عافية السوق، ويعرفون أن الله تعالى خلق الإنسان ليعمر الحياة والدنيا بالعافية، عافية الجسد، والروح، وعافية القيم والأخلاق، وعافية الإيمان والتقوى، وقد جعله خليفة في الأرض، وبما يعني جعله مسؤولا عن تحقيق هذه العافية، وبقدر ما يعرفون ذلك بإيمان قاطع، يعرفون أنهم من سعاة البشر لتعمير الحياة والدنيا بتمام العافية، بنضالهم المشروع ضد الاحتلال الاسرائيلي، بوصفه الجائحة الأخطر التي تهدد الحياة لا بالمرض، وإنما بالموت.
يبقى ان نؤكد ... السلم الأهلي عافية، الأمن الوطني عافية، والإغلاق الوقائي عافية، لأجل ان يخرج شعبنا من هذه الجائحة، وهو في تمام الصحة والعافية.