وسائلنا النضالية بين الممكن والمتعذر
بقلم: جميل عبد النبي
في البداية نحتاج إلى تعريف سريع لطبيعة المشروع الصهيوني في المنطقة، والذي لا يمكن أبداً اختزاله في مجرد رغبة دينية يهودية بالعودة إلى أرض الميعاد، التي منحها الله لإسرائيل من دون الناس..! فإسرائيل، وإن استغلت هذه الأكذوبة الدينية أكبر استغلال، فإنها تدرك الآن أكثر من أي وقت مضى، أن أسطورتها الدينية لا رصيد لها أبداً من الحقيقة، وأن أساطيرها الخرافية لم تكن إلا صياغات بدائية، تعبر عن أحلام وهمية، حاصرت الله العظيم رب العالمين داخل حدود عنصرية ضيقة، أشبه بشيخ قبيلة يقودها وحدها من دون خلقه، ويقاتل بها كل الناس، ويمنحها وحدها بركاته، حتى وإن كثر خطؤها، بل وخطأ أنبيائها، كما كانت التوراة تصف أنبياء إسرائيل. إسرائيل في الحقيقة- كانت ولا تزال- رأس حربة لقوى عالمية ذات مصالح كبرى، في المنطقة، كما لديها أيضاً مصلحة رئيسية أهم من كل المصالح المهمة الأخرى، وهي أن تظل هذه المنطقة في حالة ضعف دائم، لأنها- من وجهة نظر معادية- مكمن لخطر كبير حال توحدها، وتختزن في داخلها آيديولوجيا توسعية، تسعى للهيمنة على العالم، تحقيقاً لوعود دينية- مزعومة- بقيادة المسلمين للعالم، في عالمية إسلامية ثانية..! ما يعني باختصار أن سلامة الآخرين تكمن في ضعف المنطقة. لعلي أجد ما يبرر تلك المخاوف العالمية من المنطقة، في الخطاب الديني التقليدي الذي يعيد تكرار تهديداته في هذا السياق، وأيضاً بإصرار المسلمين على تسمية الفتوحات التاريخية السابقة بفتوحات دينية..! ما يعني وجود أمنيات في أعماق العقل الديني بالعودة إلى تلك اللحظة التي يغزو فيها المسلمون العالم، تحقيقا لفهم ديني، يعود بشكل أو بآخر إلى فهم سطحي لبعض النصوص الدينية، منها مثلاً "قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". ولأنني هنا أناقش قضية سياسية، وليست دينية، فإنني لن أذهب في اتجاه تفنيد الفهم السطحي لتلك النصوص الدينية، إنما اضطررت للإشارة إليها، لأن القضية محل النقاش- فلسطين- اختلط فيها الديني بالسياسي، ليس من طرفنا وحسب، بل إن إسرائيل هي سيدة هذا الخلط، بحديثها الدائم عن أرض الميعاد، التي منحها الله لهم من دون العالمين..! سأشير فقط إلى أن كل الشعوب التي تنتمي إلى دول كانت إمبراطوريات كبيرة في يوم من الأيام، لا تزال تفتخر بتاريخها، الذي هو باختصار تاريخ توسعي استعماري، لم تُصنع فيه الإمبراطوريات إلا على جماجم البشر، الذين فُرض عليهم الخضوع لحكم الدول التوسعية، ويمكن ببساطة العودة إلى الحروب التوسعية لتلك الإمبراطوريات للتأكد من صحة زعمي هذا، والمسلمون ليسوا بدعاً من الناس، وهم كغيرهم يقرأون تاريخاً كان لهم فيه شأن كبير بين الأمم، ويتمنون عودته، تخلصاً من مرحلة الهوان المعاصرة، وبالتالي فمن الظلم محاسبة المسلمين وحدهم على تفاخرهم بماضيهم، دون الالتفات إلى ما يشبهه لدى الآخرين، مع زعمي أيضاً أن تاريخ المسلمين- ليس وفقاً للمعايير المعاصرة، وإنما وفقاً لمعايير تلك اللحظة التاريخية- كان أكثر رحمة، وأقل ظلماً واستعباداً للشعوب التي خضعت لما كان يعرف في حينه بالخلافة الإسلامية. نحن إذن أمام رغبة شبه عالمية، بأن تبقى هذه المنطقة في حالة ضعف، وتفكك، وألا يتم جمع شملها من جديد في أي إطار سياسي موحد، ولقد كانت إسرائيل إحدى أدوات تلك الرغبة، ولا تزال، ما يعني باختصار أيضاً أن مواجهة إسرائيل تعني مواجهة مشروع دولي كبير، وأن تلك الدول التي خططت لخلق إسرائيل، أو التي ورثت فيما بعد تنفيذ هذه الخطة، لن تسمح ببساطة لأي جهة أن تهدم أهم أركان هذا المشروع، ما يعني من جديد، أن فكرة القضاء على إسرائيل عسكرياً، لا يمكن حسمها في حرب محلية، ولا أظنها حتى إقليمية، إنما عالمية، ميدانها المنطقة، ويعلم الله ما الذي سيبقى من المنطقة بعد حرب كونية كهذه..! الفكرة التي أذهب إليها- بعد فهمي لطبيعة إسرائيل، ودورها، وطبيعة حلفائها- تسعى لتحييد أدوات القوة التي تمتلكها إسرائيل، ومن يقف خلفها" السلاح". إسرائيل لا تمتلك حقاً أخلاقياً، ولا إرثاً تاريخياً خالصاً يجعلها مالكة الأرض الحقيقية، أو الوحيدة، لكن القوة التي يمتلكها المهيمنون، عسكرياً، وإعلامياً، واقتصادياً، خلقت حقا- مزيفاً- وأقنعت شعوب العالم بحق إسرائيل في الوجود في أرض الميعاد، وهكذا كان. المشروع الصهيوني صاحب الدور المشار إليه أعلاه، يرتكز على فكرة الإحلال، بأن يتم إحلال شعب مكان شعب، ولتحقيق هذا الهدف، تم جلب ملايين اليهود من دول العالم، وتهجير ملايين الفلسطينيين من أرضهم، في معركتي 1948م، و 1967م، لكن من سوء حظ إسرائيل، أن بقي من الفلسطينيين بقية، ليست محصورة في بقعة واحدة من فلسطين، إنما موزعة بشكل يقض مضجع الحلم الصهيوني، وهم موجودون الآن في داخل فلسطين المحتلة عام 1948م، وفي الضفة، والقدس، وغزة، والأسوأ- بالنسبة لإسرائيل- أن عدد الفلسطينيين ساعة كتابة هذه الكلمات، فاق عدد اليهود داخل حدود فلسطين التاريخية، التي تسميها إسرائيل:" أرض إسرائيل" حيث يبلغ تعداد الفلسطينيين في المناطق المذكورة أعلاه ستة ملايين، وثمانمئة ألف فلسطيني، مقابل ستة ملايين ونصف المليون يهودي، ما يعني بدون أدنى شك أن فكرة المشروع الصهيوني قد فشلت تماماً، حيث لم يتم إخلاء الأرض من السكان، حتى وإن تم طردهم من مناطق واسعة منها، وتجري محاولات قضم مزيد من الأرض، لكن الفلسطينيين موجودون داخل فلسطين، ولديهم أيضاً رصيد فلسطيني كبير في دول مجاورة، سيظل ضاغطاً على أعصاب إسرائيل. السؤال الآن: كيف نحرم إسرائيل وحلفاءها من أقوى أسلحتهم؟ وكيف نستغل الوجود الفلسطيني الكبير داخل حدود فلسطين؟ وكيف نستفيد من الوجود الفلسطيني في الشتات؟ تجنباً للإطالة سأكرر بعض ما أكرره مرات ومرات، لأني أراه أهم ما نمتلكه من الأسلحة، وما نستطيعه من الأهداف. الديموغرافيا: هي هاجس إسرائيل الأبدي، وهي سلاحنا الذي لم تستطع إسرائيل تجريدنا منه، وهو الذي علينا أن نحافظ عليه بكل السبل، ومنها- كما أشرت أعلاه- تحييد آلة الحرب الإسرائيلية التي تتفوق فيها علينا تفوقاً كبيراً، ومرعباً، حتى وإن ضغطت مشاعرنا الوطنية علينا بدفعنا باتجاه المواجهة المباشرة، التي يراها المظلومون حقاً لهم، وهي حق وحقيقة، لكنها ليست غاية في ذاتها، إنما مجرد وسيلة، والوسائل لا تفلت من مبدأ الفحص، بمعنى أنها ليست مقدسة في ذاتها، إنما غايتها هي المقدسة، وفي حال ثبت إمكانية إحداث أضرار عميقة بالغايات، فإن استبدال الوسائل يصبح واجباً، وليس مجرد مسموح به، حتى وإن أزعج ذلك مشاعرنا الوطنية، ورغبتنا في الثأر، وفي حالتنا الفلسطينية فإن أي مواجهة عسكرية مباشرة سينتصر فيها الأكثر تسليحاً، وقدرة. لا بد إذن من البحث عن الوسائل التي لا تستطيع معها إسرائيل استخدام آلة حربها، والحديث هنا عن النضال السلمي، والشعبي، والقانوني، والذي بات واضحاً أننا نستطيع مراكمة بعض الانتصارات التي تبدو صغيرة، والتي من شأنها أن تحقق انتصارات كبيرة، خاصة ونحن نعرف أن البديل المتمثل في المواجهة المباشرة ليس في صالحنا، وقد يمكن إسرائيل من إحداث بعض الانزياحات الديموغرافية، والأهم أن مثل هذه الوسائل النضالية لا تجعل من بقائنا مكلفاً لنا، بل نستطيع أن نواصل- مع هذه الأساليب النضالية- بناءنا في الإنسان، والأرض، وأن نبني كياننا على أسس عصرية، وحضارية. أما فلسطينيو الشتات فهم ذراعنا القوي، انظر مثلاً كيف تبحث كل التجمعات صاحبة القضايا الأخلاقية عن داعمين في دول العالم، ونحن لدينا داعمون من دمنا، ولحمنا، موزعون في كل دول العالم، بل إنهم ليسوا مجرد داعمين، إنهم أصحاب قضية، وهؤلاء يجب أن يتم تجنيدهم، والعمل معهم في كل مكان يتواجدون فيه في العالم لعرض الرواية الفلسطينية الحقيقية، وإبطال المزاعم الإسرائيلية، بكل الوسائل المشروعة المتاحة لهم في دول الشتات، كالتظاهرات، والمسيرات، والحوارات المفتوحة، والفن، والأدب، يجب أن يكون كل ذلك ضمن خطة منهجية موجهة تقوم بها السلطة، ومنظمة التحرير تحديداً، واعتبار ذلك من أهم وسائلنا النضالية الأساسية، وليس مجرد ترف، يمارسه البعض في أوقات فراغهم، إنما نضال مستمر، ومتواصل، ويومي، يجد فيه كل فلسطيني في الشتات متسعاً لذاته. رغم كل ما يبدو علينا من ضعف فنحن أقوياء بوجودنا هنا في فلسطين، أقوياء بشعبنا المتواجد في معظم دول العالم، أقوياء بروايتنا الحقيقية، وبحقنا الأخلاقي.