تجربة الاسير المحرر المناضل امين مقبول - مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة يواصل توثيق تجارب الاسرى
يواصل مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة توثيق تجارب الاسرى، حيث تناول تجربة الاسير المحرر امين رمزي مقبول امين سر المجلس الثوري لحركة فتح حيث روى وقائع تجربته مع الأسر والإقامة الجبرية والإبعاد.
مرة اخرى هي الاسيرة هناء الشلبي التي تواصل اضرابها الملحمي عن الطعام لليوم الثاني والثلاثين ، في مواجهة محاولات السلطات الاسرائيلية كسر ارادتها وطرح بدائل تخرج اسرائيل نفسها من هذا المأزق الذي وجدت نفسها فيه مع اضراب الاسير خضر عدنان والان في مواجهة ارادة اسيرة فلسطينية واحدة تمكنت من تعرية تلك الانطمة والقوانين الجائرة التي عفا عليها الزمن والتي يلجأ اليها الاحتلال لتبرير الاعتقالات الادارية وللتستر بها لاخفاء حقيقة الانتهاكات الفظة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني واسراه.
بما يتناقض مع القانون الدولي الانساني عموما واعلان حقوق الاسنان على نحو خاص ، وهي محاولات اقل ما يقال فيها انها تأتي لاضفاء شرعية على هذه الممارسات مثل اقتراح ابعاد الاسيرة الشلبي الى قطاع غزة او غيره بعد ان غلفت اسرائيل هذا الاعتقال بنظامها القانوني في محاولة تضليل اخرى لا يمكن ان تخفي حقيقة ان هذا النظام القانوني هو نظام احتلال يتنكر حتى للقوانين الخاصة بحالات الاحتلال التي تنص عليها اتفاقيات جنيف.
وفي كل الاحوال فان معركة الارادات التي تخوضها الاسيرة هناء الشلبي وباقي الاسرى مدعومة بهذا التضامن الشعبي والتحرك الرسمي لا يمكن الا ان تضيف ما هو جديد في تداعي وانهيار تلك الانظمة والقوانين الظالمة امام ارادة الحق والعدل والحرية.
سنتناول تجربة الاسير المحرر المناضل امين رمزي مقبول ، امين سر المجلس الثوري لحركة " فتح " .
نبذة شخصية:
هو أمين رمزي مقبول من مواليد العام 1951، متزوج وله ثلاث اولاد ، وقد اعتقل لعشر سنوات من تاريخ 31/3/1973م ،الى تاريخ 30/3/1983م، وحاصل على بكالوريوس علم إجتماع من جامعة النجاح الوطنية ،واثناء دراسته الجامعية ، تولى مسئولية حركة الشبيبة الطلابية ، ثم اصبح عضوا في الهيئة القيادية العليا لقيادة الضفة الغربية في حركة فتح ، ومن ثم امين سر لاقليم فتح في نابلس ، وعضو اللجنة الحركية العليا ، ثم عمل وكيلا لوزارة الداخلية ، ومن بعد عمل كمستشارا للرئيس بدرجة وزير ، وهو الان امين سر المجلس الثوري لحركة فتح ، وقد التقاه طاقم المركز معدا عنه التقرير التالي .
البداية:
التحقت بحركة فتح في عام 1967م، وذلك بعد إستشهاد شقيقي ( منيب ) وكان هذا الحدث السبب المباشر لإلتحاقي بالعمل الفدائي،وقمت بعدة نشاطات مع المجموعات العاملة في منطقة نابلس حينذاك، وكانت ذروة تلك الأنشطة في شهر أيلول 1967م، واضطررت فيما بعد لمغادرة البلاد الى الأردن، ودخلت الأراضي السورية متسللا عبر الحدود للتدرب عل السلاح قاصداً معسكر الهامة بالقرب من دمشق، وكان ذلك في شهر كانون أول 1967م، بعد ذلك عدت الى الأرض المحتلة ومارست العديد من الأنشطة الفدائية أثناء دراستي ، وحصلت على شهادة الثانوية العامة في مدينة نابلس في العام 1970م ، وتوجهت الى العراق لدراسة الهندسة بجامعة الموصل،وخلال دراستي تلقيت العديد من الدورات العسكرية التدريبية وكانت دورات متنوعة ومتعددة الإختصاصات، كالتدريب على إستعمال الأسلحة الخفيفة وصناعة وزراعة العبوات، والتعامل مع المتفجرات، وأثناء زيارتي للأرض المحتلة كنت أقوم ببعض العمليات والأنشطة الفدائية .
وفي بداية العام 1972م ، تلقيت أمرا من القيادة الفلسطينية وقيادة القطاع الغربي ، بضرورة عودتي الى الداخل، وقد حضر الى بغداد الأخ صخر حبش رحمه الله ليبلغني بهذا الأمر، وعرفت فيما بعد بأن هذا الأمر عمم على عشرات الكوادر من سكان الأرض المحتلة من طلاب ومدرسين وعاملين سريين في صفوف الثورة في الخارج، وذلك بهدف إعادة الإعتبار للعمل العسكري في الساحة المركزية ( فلسطين ) بعد خسارة ساحة الأردن والإنتقال الى لبنان،حيث كانت القيادة تواجه مأزقا سياسياً كبيراً بعد حرب أيلول وجرش، وحصاراً عربياً خانقاً، ومساعي عالمية لتصفية القضية الفلسطينية ،وفعلا لقد كان لتلك العمليات في تلك المرحلة نتيجةً سياسيةً هامة، وقد وفرت تلك العمليات أيضاً مناخاً سياسياً ثريا للعمل الدبلوماسي الفلسطيني، وقد أشار الأخ أبو يوسف النجار الى تلك العمليات، أثناء مشاركته في أعمال مؤتمر وزراء الخارجية العرب المنعقد في القاهرة عام 1971م ، وكان حينها يرأس الوفد الفلسطيني المشارك في أعمال تلك الدورة،وأعتبر ذاك الإجتماع من أهم إجتماعات وزراء الخارجية العرب .
وبقيت على هذه الحالة الى أن إعتقلت، بعد إنكشاف أمر عبوةً ناسفةً موقوتةً كنت قد وضعتها أسفل باص إسرائيليا في مدينة نابلس، وانفجرت عبوة أخرى في مكان أخر من المدينة، وقد كانت لهذا التحقيق نتيجة هامة جداً، وهي انه لم يفضي الى الإدلاء بأية اعترافات أخرى على أناس اخرين كان لي بهم صلات عملية وثيقة .
الإعتقال والتحقيق:
في يوم 31/3/1973م ، داهمت قوة كبيرة من الجيش والمخابرات الإسرائيليان منزلي الواقع داخل البلدة القديمة في نابلس، وقد توقعت إعتقالي بعد إعلان الجيش الإسرائيلي عن انفجار العبوات التي كنت قد زرعتها ، فأدركت بأنه قد أمسك بطرف الخيط ، لهذا لم أفاجأ كثيراً عندما سمعت جلبة وضوضاء الجنود حول بيتي ومن ثم اقتحامه واعتقالي
بدأ معي التحقيق ضابط المخابرات ( يونا ) حسبما عرف على نفسه، ووجه لي تهمة زراعة العبوة التي لم تنفجر، وأنني على صلات مع مكاتب الفدائيين في بيروت ودمشق، في البداية أنكرت كل ما أتهمني به ذاك الضابط ، بعد قليل فوجئت بأنهم قد أحضروا أمرأة عرفت لاحقا إنها من قرية أقرت المهجرة في الجليل المحتل، وقالت ، نعم هو ،أنه هو، حتى أنه كان لابس نفس هذه الملابس، الله لا يجبره بدو يقتل ركاب الباص، وقالت ايضاً ،لقد شاهدته يضع القنبلة في الباص، ومن سوء حظي فعلا أنني كنت بنفس الملابس، ولم أقم بإستبدالها عند عودتي الى البيت، ليقيني بأنه لم يراني أو يشتبه بي أحد ما .
فأنكرت من فوري هذه التهمة وغيرها من التهم،فقام رجال المخابرات بإحضار شاهداً ثانياً ، وهو صاحب محل الساعات الذي كنت قد اشتريت من عنده الساعة التي ثبتها على العبوة كمؤقت للتفجير، وكانت المخابرات قد تعرفت من خلال ماركة الساعة على المحل الذي يقوم ببيعها في نابلس، فأحضروه وقدم للمحققين كشفاً بمبيعاته وكنت واحداً من المشترين بطبيعة الحال، وقال بأنه قد باعني ساعتين .
فيما بعد أنضم الى طاقم المحققين ضابطان أخران وهما ( أبو علي ميخا ) و ( كوبي )، أمام هذه التطورات إعترفت بمسئوليتي عن العبوة التي لم تنفجر، والتي شهد علي بها الشهود المذكورين وعن عملية أخرى، وهي تفجير سيارة إسرائيلية أمام مركز الشرطة في نابلس، بعد هذا الإعتراف بدأ ضغط المحققين علي لإجباري على الإعتراف بعبوات أخرى، وقال لي المحقق كوبي ،أنا على يقين بأنك المسئول عن تلك العبوات، لأنها معدة بنفس الطريقة التي صنعت فيها عبوة الباص، وعليها نفس ماركة الساعة التي أشتريتها من الساعاتي الذي تعرف عليك ، فأجبته بأن الذي دربني من الممكن أنه قد درب غيري ،وأنا غير مسئول عن تلك العبوات، ولا علاقة لي بها ، كما مورس علي ضغط وتعذيب شديدين للإدلاء بأسماء شركائي في المنطقة فأجبت بأنني أعمل لوحدي ولا علاقة لي بأحد، لكن المحقق كوبي لم يقتنع بكلامي هذا ومارس ضدي أبشع أنواع التعذيب كالشبح المستمر وتعريتي من ملابسي ووضعي تحت دش المياه الباردة، والضرب الشديد على المنطقة التناسلية، وقال لي ذات يوم لن أتركك حتى تسدد باقي الكمبيالات، وبعد مرور عشرين يوما أقفل التحقيق على هذه النتيجة فقط لا غير ، ومن الجدير ذكره هنا بأنني لم أعترف بأنني قد نظمت في العام 1967م ، بل في العام 1972م .
الدخول الى السجن:
بعد ذلك دخلت الى سجن نابلس المركزي، وأذكر أنني ألتقيت بأسير من سكان الحي الذي أسكنه في مدينة نابلس، وهو من كوادر الجبهة الشعبية وقال لي بعد سلامه علي " يعطيك الحجة والناس راجعه " وقد أستغربت هذا القول، لكنه لم يحدث أي تأثير في نفسي، وكان ذاك الرفيق يقصد بقوله هذا، خسارتنا لحرب أيلول وخروجنا من الأردن، وما سببته هذه النتيجة من شيوع وتفش لحالة الإحباط القوية في الأراضي المحتلة، وكانت إسرائيل بين الفينة والأخرى تقوم ببث إشاعات قوية عن اقتراب موعد تنفيذ إفراجات واسعة في صفوف الاسرى، مما يثير حالة من القلق والترقب والتوتر داخل السجون .
بعد ذلك تعرف علي الإخوة في التنظيم ، واستقبلوني بمزيد من السرور والترحاب،وخاصة بعد أن عرفوا بأنني قد صمدت في التحقيق،وبدؤا يتعرفون على قدراتي الثقافية والمعرفية بشكل تدريجي وأدركوا بأنني أمتلك ثقافة ومعرفة واسعة بأدبيات وفكر الحركة، بسبب الدورات التي كنت أتلقاها في الخارج، ومن الجدير ذكره هنا بأن السجون في ذاك الوقت كانت تفتقر للكفاءات والكوادر المؤسسين ثقافياً وفكرياً، وفي سجن نابلس بدأت نشاطي بكتابة العديد من الدراسات والمقالات التنظيمية والثقافية وأذكر أنني قمت بأعداد دراسة بأسم ( مؤسسات فتح ) ودراسة حول ( المشكلة الكردية ) وأخرى عن ( المضمون الاجتماعي لحركة فتح ) ودراسة عن ( أسس التحليل السياسي ) .
وبعد مرور أشهر قليلة على وجودي في سجن نابلس، جائني مجموعة من الأخوة المناضلين وأبلغوني برغبة القاعدة التنظيمية وقادة فتح في السجن بترشيحي لمهمة الموجه العام للحركة في السجن، فوافقت وقمت بواجبي التنظيمي خير قيام بالتعاون مع الأخوة في اللجنة المركزية، حيث شاركت بإعادة بناء وتشكيل الحالة التنظيمية للحركة ،وتنظيم الجلسات الثقافية والفكرية، والتعليمية، وإقرار نظام محاسبة وعقوبات، وقمنا بإعداد نظام داخلي للسجن مستوحى من النظام الداخلي للحركة، وتمت هيكلة الحركة وفقا لأسس تنظيمية تناسب حالة الأسر، حيث تم تقسيم الأعضاء داخل الغرف الى خلايا تنظيمية وموجهي غرف وموجهي أقسام ولجان إدارية وثقافية ونضالية وجهاز أمن ولجنة مركزية وموجه عام ،وسادت السجن حالة قوية من الإنضباط والإلتزام باللوائح والقوانين التي ساهمت في النهاية من رفع مستوى الأسرى الثقافي والمعرفي،حيث كانت تعقد الجلسات الثقافية بمعدل جلستين في اليوم، أما دورات التعلم كتعلم اللغات ومحو الأمية والتعليم الثانوي، وأنا شخصيا كنت أقوم بتدريس مادة الرياضيات ،وقد ساعدت هذه الظروف بتحسين قدرات الأسرى في التصدي لإدارة السجن، وإتخاذ مواقف نضالية موحدة ضدها من قبل كافة الأسرى، وبتنا نوسع من نطاق مطالبنا المقدمة لإدارة السجن والمطالبة بتحسين شروط وظروف الحياة داخل الأسر كالمطالبة بتحسين نوعية وكمية الأكل، وزيادة وقت النزهة، وتوفير المياه الساخنة للإستحمام، وأذكر في هذا الجانب أننا ذات يوم قد قررنا الدخول في خطوة الإضراب عن زيارة الأهل، وخلال هذا الإضراب توفي والدي ( رمزي مقبول ) رحمه الله ،وجاء أهلي الى السجن لزيارتي إلا أنني أمتنعت عن مقابلتهم التزاماً بالموقف العام للأسرى .
وخلال وجودي في السجن تعرضت لعقوبات كثيرة من قبل إدارة السجون، ونقلت بين السجون ومن سجن الى أخر أكثر من 31 مرة ، ومكثت فترات متفاوتة في سجون بئر السبع وطولكرم والخليل ورام الله والرملة وبيت ليد ونابلس وجنين، وعدد من هذه السجون عدت أليها أكثر من مرة .
سجن الخليل :
نقلت الى هذا السجن في العام 1980م، وفيه واجهت بعض الأمور الهامة،حيث أعدم فيه أثناء فترة إستلامي لمهمة التوجيه العام احد العملاء ، وهي واقعة غير مسبوقة في سجن الخليل منذ تأسيسه عام 1967م، فأصرت إدارة السجن على أنني المسئول عن هذا العمل بسبب إنني قد كنت سابقاً في سجن بئر السبع، وهناك تمت أكثر من عملية إعدام ضد العملاء الذين يتم إكتشافهم داخل السجن، فقررت إدارة سجن الخليل نقلي الى سجن رام الله، إلا أن إدارة سجن رام الله رفضت إستقبالي ،فنقلت الى سجن جنين ومن ثم الى نابلس وقد رفض مدراء السجنين الأخيرين، إستقبالي أيضاً، فتم نقلي الى سجن الرملة، وأودعت هناك في الزنزانة التي مكث فيها المطران إيلاريان كبوتشي ردحاً من الزمن، وكذلك الأسير الياباني ( كوزموتو ) .
وكانت معاملة إدارة سجن الرملة لي في منتهى السوء والقسوة، ولم تلتفت تلك الإدارة لإحتجاجاتي المتواصلة على سوء معاملة السجانين لي ، فأضربت عن الطعام لمدة خمسة أيام، وأمضيت في تلك الزنزانة أياما طويلة من العزلة عن العالم ، غير الاتصال بمجموعة من المساجين الجنائيين اليهود، وكان اؤلئك المساجين يحرضونني على القيام بإحراق البطاطين في زنزانتي، وهربوا لي قداحة من اجل ذلك، وساورتني شكوكاً قوية بأنهم قد دبروا هذا الأمر مع إدارة السجن، على طريق التخلص مني بعد إشتعال الزنزانة وتركي أحترق أو أختنق بداخلها .
في نهاية اليوم الخامس أعلنت عن إنهاء إضرابي عن الطعام وفوضت أمري لله عز وجل، ولاحقا لهذا الأمر علمت بأن زملائي في أكثر من سجن كنابلس المركزي والخليل ورام الله ،بدأوا بالبحث عني من خلال الصليب الأحمر، الذي لم يكن لديه أية معلومات عن مكان وجودي الأخير،وبعد مرور عشرون يوماً على إنتهاء إضرابي عن الطعام نقلت الى سجن طولكرم .
سجن طولكرم:
نقلت الى هذا السجن في بداية العام 1981م، وكان مخصصا لعزل قادة الحركة الأسيرة من مختلف السجون ،وأتممت فيه ما تبقى من فترة محكوميتي، ولا بد من الإشارة هنا الى أنه في ذاك العام روجت إسرائيل لفكرة الإبعاد الإختياري عن البلاد، وعرضت هذه الفكرة على الأسرى أصحاب المحكوميات العالية، لمقايضة حريتهم بالإبعاد، وكنت أنا ممن عرض عليهم هذا الأمر،ولم أستجب كما لم يستجب أياً من الأسرى الموجودين في السجن لهذا العرض،علماً أنه لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعرض فيها علي فكرة الإبعاد ، فقد سبق للمخابرات الإسرائيلية أن عرضت علي الأمر ذاته في أواخر العام 1979م، وكنت حينها في سجن نابلس المركزي، وكان من بين ضباط المخابرات الذين قابلوني من أجل هذه الغاية ضابط المخابرات ،( يونس ) وهو نفسه الذي سلمني أمر الإبعاد في آب 1985م، وقد أصبح هذا الضابط فيما بعد رئيسا لجهاز الشاباك وهو( يوفال ديسكن ) .
في بداية العام 1981م، دخل الأسرى في سجن طولكرم غمار مرحلة نضالية صعبة وقاسية قوامها الإضراب عن الطعام لمدة سبعة عشر يوماً، في اليوم الثاني للإضراب دهمت السجن قوة كبيرة من قوات مصلحة السجون العامة، وقاموا بإخراج الاسرى من الغرف وتم تجريدهم من ملابسهم في ساحة السجن، وأجبروا الأسرى على العودة الى غرفهم وهم يحملون ملابسهم بأيديهم دون السماح لهم بارتدائها حيثما تمت عملية تفتيشهم بقصد الإمعان في إذلالاهم وإهانتهم ،وقاموا بتفتيش الغرف وقلبها رأساً على عقب، وصادروا كل ما صادفوه داخلها كمقتنيات الاسرى الشخصية والأقلام والدفاتر والكتب ، ومشتريات الاسرى من كانتين السجن كالسكر والشاي والقهوة
في نهاية اليوم الثالث بدت علامات التعب على الأسرى لأن ظروف السجن الصحية أصلاً لا توفر العافية المطلوبة لأجساد الأسرى،حيث يقع هذا السجن في منطقة مشبعة بالرطوبة وسط مبنى قيادة الحكم العسكري الإسرائيلي وتحيط به تلك العمارة من الجهات الأربعة، فالشمس والهواء لا تدخلانه بحرية ويسر ولفترة كافية، حيث لا قدرة لبشر للتعامل مع هذا المستوى من الضغط الجوى الرهيب، المشبع بالرطوبة والتعفن، واذكر أن العديد من الأسرى قد تضرروا صحياً ولفترات طويلة بسبب إقامتهم فيه، واذكر منهم الأخ المناضل ( لؤي عبده ) الذي تدفقت من أذنيه الدماء ذات يوم ، بسبب إرتفاع الضغط داخل الغرف، وما زال يعاني من صم جزئي في أذنيه منذ ذلك الوقت ولغاية الآن،بسبب ذلك فأن المطلب الأول لذاك الإضراب كان المطالبة بإغلاق السجن نفسه، ونقل الأسرى منه الى سجون أخرى أقل قسوة ،وفي فورة اليوم الثاني لبدء الإضراب تناقص عدد الاسرى الذين يخرجون من الغرف الى ساحة النزهة بسبب تمكن التعب والإعياء من عضلات أجسادهم، حيث لم يتمكنوا من قطع المسافة الواصلة بين الغرفة وتلك الساحة .
وأمضى غالبية الأسرى ما تبقى من أيام المواجهة الصامتة طرحاء فراشهم ،لا يقومون منه إلا بقصد الوصول الى الحمام لقضاء الحاجة، وأذكر أنه في اليوم الخامس إزدادت وطأة الإضراب،وخيم على المكان شبح الموت، والكوابيس المشابهة، وقلة النوم والقلق ،وقد أنبرى قسم من الأسرى بالفعل لكتابة وصاياهم ورسائلهم الأخيرة لذويهم، وخلال هذا الإضراب لم تحاول إدارة السجن إجبارنا على تناول الطعام بالقوة ، بسبب الضحايا الذين سقطوا جراء إتباع هذه الوسيلة داخل السجون، وخاصة خلال إضراب سجن نفحة الشهير، في نهاية اليوم السابع عشر استدعت إدارة السجن ممثل الاسرى ومعه اللجنة النضالية وفاوضتهم على مطالبهم ، ووافقت على العديد منها بإستثناء مطلب إغلاق السجن وانتهى الإضراب .
التحرر من الأسر:
في نهاية اليوم الأخير من العام العاشر، أفرجت عني إدارة سجن طولكرم، وأود ان أقول لك حقيقة عشت معها طيلة تلك السنين العشرة التي أمضيتها خلف قضبان الأسر الإسرائيلي، وهي أنني قد تمكنت بالفعل من التعايش مع ظروف السجن على نحو مكنني من هضم الأيام والتغلب على قسوتها،شأني في ذلك شأن آلاف الأسرى الذي أسرهم المحتل الإسرائيلي، حدث ذلك بسبب إستغلالي للوقت على نحو مثالي وتمكنت من تجزئة وتقطيع الوقت وتوزيع ساعاته على برامجي الخاصة والعامة والمكونة من الاهتمام بالقراءة والكتابة والتلعم والتعليم، والعمل التنظيمي والنضالي ومقارعة إدارة السجن ، في الشهر الأخير من أيام وجودي في الأسر ، تأملت جيداً السنوات العشر الأخيرة من عمري على مهل، وعلى قسوتها فإنها مرت كلمح البصر، ولعل هذا هو سر نجاح الحركة الوطنية الاسيرة داخل السجون الإسرائيلية، وهو ان الأسرى أحسنوا إستغلال الوقت ، ولم يتركوه يتحكم بهم إنما العكس هو ما حصل .
وفي هذا السياق كان للمستقبل النصيب الأكبر من تفكيري خلال الأيام الأخيرة لي في الأسر، ولم أتمكن من رسم صور واضحة المعالم للطريق التي ينبغي علي ان أسلكها مستقبلاً، في خضم هذا العصف الذهني الخاص مابين الأيام التي مضت والأيام القادمة، فتحت أمامي أبواب سجن طولكرم وكان ذلك في يوم الأرض 31/3/1983م ، فوجدت أهلي في الانتظار أمام بوابة السجن، وكانت مدينة طولكرم تخضع لنظام حظر التجول العسكري بسبب المواجهات التي اندلعت في الصباح، وفي طريق العودة الى المنزل لم نسلك الطرق المعتادة للسير بل اعتلينا الجبال وسرنا في طرق جبلية ووعرة، وعندما وصلنا نابلس كانت هي الأخرى تخضع لذات الحظر على التجوال، الذي فرضته دوريات الجيش الأسرائيلي التي تجوب الشوارع الخالية من الناس في وسط نابلس، رغم ذلك وصلت الى البيت داخل البلدة القديمة .
وقد قدمت هذه الظروف الصاخبة لي وصفاً تمهيدياً للشكل الذي يمكن أن تكون عليه أيامي القادمة وقوامها أنه يجب علي التعايش مع شكل جديد من أشكال المواجهة في الهواء الطلق مع المحتل، ومع لحظة دخولي لمنزلنا ومكان نشأتي وخروجي الى هذه الدنيا، بدأت بالسلام على عتبة البيت وأبوابه، وعلى جدران الحي وزقاقه وأقواسه المدلية من السماء، وعلى أبواب وشبابيك الغرف المرابطة في الأزقة وفي دهاليز البلدة القديمة .
وبعد رفع حظر التجول بدأ الأهالي في الجوار ومن باقي المحافظات بالتوافد على منزلنا للسلام علي وتهنئتي بالتحرر من أسر الإحتلال ، بعد مرور أسبوع على خروجي من الأسر بدأت بالإتصال مع الأخوة والزملاء الاسرى الذين تحرروا قبلي، والتقيت العشرات منهم، وفي هذه الأثناء جائني أمراً تنظيمياً من الأخ ابو جهاد رحمه الله ، وطلب فيه مني الإلتحاق بجامعة النجاح الوطنية، علما أن ميولي كانت باتجاه العمل النقابي،وقد برز هذا الميل لدي بعد ان كلفت بالتدخل في تسوية بعض المشكلات المتعلقة بهذا القطاع في منطقة نابلس .
وبالفعل توجهت لجامعة النجاح وسجلت في كلية الآداب، حيث لم يكن من السهل علي مواصلة تخصصي العلمي السابق في جامعة الموصل ( الهندسة ) بسبب إنقطاعي عن هذا المضمار ومقرراته طيلة عشرة أعوام مضت، بعد فترة قصيرة من الزمن تم إنتخابي كرئيس لحركة الشبيبة الطلابية في الجامعة، وكنت عضوا في اللجنة القيادية لمنطقة الضفة الغربية، والتي كانت تعمل تحت إمرة الأخ ابو جهاد، وخلال هذه الفترة من ترأسي لحركة فتح في الجامعة بدأ إتصالي بمكتب الأرض المحتلة في إطار قيادة القطاع الغربي وكان يشرف على ذاك المكتب الأخ المناضل زهير مناصرة ،وكنت بسبب تعدد الأدوار التي كلفت بها على إتصال دائم ووثيق مع غالبية الكادر القيادي للحركة ، وكنت أقوم بناء على ذلك بزيارات متواصلة للمؤسسات الطلابية والعمالية والنقابية، في الضفة الغربية وقطاع غزة .
في منتصف العام 1984م، تعرضت من جديد للإعتقال أثر إشرافي على تنظيم مهرجان فلسطين داخل جامعة النجاح،وقد توافد على الجامعة لحضور هذا المهرجان جماهير غفيرة من كافة محافظات الوطن، بلغ عديدهم أكثر من عشرون ألف زائر وزائرة ،وفوجئنا في نهاية اليوم الثالث للمهرجان بمداهمة جيش الاحتلال للمهرجان والقيام بتحطيم محتوياته وتم اعتقالي في مساء ذاك اليوم، وتم التحقيق معي بتهم متعددة .
رسالة الأخ أبو جهاد للتحضير للإنتفاضة:
وكانت التهمة الرئيسة الموجهة لي في هذا التحقيق، هي أنني تلقيت رسالة من الأخ أبو جهاد موجهة لقيادة التنظيم في الضفة الغربية، للمباشرة في تشكيل لجان شعبية ولجان أحياء، في كل مدينة وقرية ومخيم، تمهيدا للقيام بأنشطة نضالية ميدانية واسعة النطاق، وصولاً الى عصيان مدني شامل،وقد كان مع المحققين نسخة من تلك الرسالة التي عثروا عليها خلال عملية المداهمة التي قاموا بها للجامعة، وعلى ما أظن ان عملية الاقتحام نفسها كانت بسبب هذه الرسالة، وقد عثروا عليها بجانب ماكينة التصوير، حيث أنني كلفت أحد الأخوة بالقيام بتصوير عشر نسخ منها، وهي عبارة عن رسالة مكتوبة بخط اليد ومكونة من عشر صفحات A4 ، وأنتهى التحقيق معي بعد ثمانية عشر يوماً ، بدون أن يحصل المحققون مني على كلمة واحدة، وهنا أود أن أقول أمرا هاماً موجهاً لجماهير شعبنا، وهي كلمة حق بحق الأخ القائد الشهيد خليل الوزير أبو جهاد،وهو أن فكرة الإنتفاضة أو الهبة الجماهيرية الشاملة والمتفجرة أتقدت في ذهنه بعد الخروج من بيروت مباشرةً ، ولا زلت أذكر ما قاله ذات يوم أمام بعض القيادات الفلسطينية في العام 1983م " الآن وبعد كل هذه الحروب لا بد من حركة جماهيرية متفجرة "
الإقامة الجبرية والإبعاد:
بعد الإفراج عني ، فرضت سلطات الإحتلال العسكري الإسرائيلي في آيار / 1985م ،الإقامة الجبرية علي داخل المنزل، وإلزامي بالتوقيع على سجل إثبات وجود يومي لدى مركز الشرطة الإسرائيلية في مدينة نابلس، وطلب مني عدم الإقتراب من منطقة جامعة النجاح
في مساء يوم 28/8/1985م، داهمت قوات كبيرة من جيش الإحتلال منزلنا في البلدة القديمة، وكان على رأس تلك القوة ضابطاً من المخابرات الإسرائيلية يدعى ( الكابتن - يونس )،الذي أصبح لاحقاً رئيساً لجهاز الشاباك كما ذكرت، وكان يحمل بيده أمر إبعادي عن الديار موقعا من قائد المنطقة العسكرية الوسطى الإسرائيلي، ونقلت الى سجن جنيد، وقد شهدت تلك الليلة حملة إعتقالات واسعة ، وكان الجيش الإسرائيلى زمن ذاك ينفذ سياسة القبضة الحديدية، وقد حول بموجبها عشرات الأسرى للإعتقال الإداري المفتوح ، وأنا بدوري رفضت قرار الإبعاد واستأنفت عليه أمام المحاكم في نابلس والمحكمة الإسرائيلية العليا في القدس،والتي رفضت بدورها إستئنافي وأقرت قرار الإبعاد، مدعمة قرارها بعشرات التقارير السرية .
وفي يوم 2/10/1985م ، حملني الجنود الإسرائيليون الى منطقة وادي عربا، وكان في الجانب الأردني ينتظرني مجموعة من الجنود الأردنيون ووسائل الإعلام ،لأن خبر الإبعاد كان قد نشر عبر وسائل الإعلام في اليوم السابق ، واستقبلني ضابطاً من الجيش الأردني برتبة مقدم، حيث قام من فوره بمواساتي بكلمات طيبة ورقيقة تعبر عن مشاعر أخوية صادقة، وأنا لم أتماسك وسالت دموعي على وجنتي، وانتظر الصحفيين أمامي لأكثر من عشرين دقيقة حتى تمكنوا من الحصول على كلمة واحدة مني تعقيبا على قرار إبعادي ، بعد وصولي الى عمان استقبلني الأخوة في مكتب قيادة الوطن المحتل والذي يرأسه الأخ ابو جهاد ، والتحقت بعملي في هذا المكتب على الفور،وتوليت مسئولية الاتصال مع قيادة التنظيم في الداخل، واستمر هذا الوضع الى ان قررت الحكومة الأردنية خطوة إبعاد الأخ ابو جهاد عن الساحة الأردنية، بسبب وجود تهديدات إسرائيلية باغتياله فوق الأراضي الأردنية، بسبب الأنشطة التي يقودها عبر الأردن في الأرض المحتلة، وتبعاً لذلك قامت الأردن بإغلاق مكاتب القطاع الغربي، وإبعاد الأخ زهير مناصرة الى بغداد،وتم إعتقال العديد من القادة والكوادر من قبل المخابرات الأردنية، فوقع الحمل الأكبر من المهمات على عاتقي،وخلال هذه المرحلة إندلعت الإنتفاضة الفلسطينية الكبرى 1987م، وإستحوذت تلك الإنتفاضة على إهتمام ورعاية القيادة الفلسطينية، وأصبحت الملف الأول لدى الجميع .
بعد إستشهاد الأخ ابو جهاد بسبب دوره في تفجير وقيادة الإنتفاضة، ترأس الأخ أبو عمار مكتب الأرض المحتلة،وإستمر العمل في هذا المكتب تحت قيادة الرئيس ابو عمار حتى العودة الى الوطن .
العودة الى الديار:
مع بدء مفاوضات الرواق في واشنطن في العام 1993م ، والتي قادها الأخ فيصل الحسيني وحيدر عبد الشافي، طلب الأخ الرئيس ابو عمار من وفدنا الطلب من واشنطن وإسرائيل الموافقة على إعادة المبعدين من الضفة وغزة ، ليساهموا في التحضير لإنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة ،وقد وافقت إسرائيل على إعادة جزء من المبعدين في بداية العام 1994م، بعد ان شطبت أسماء كثيرة من القائمة الأولى وكان أسمي من بين الأسماء التي شطبت، وبعد تكرار المحاولة من جانب الوفد الفلسطيني وافقت إسرائيل على عودة دفعة ثانية من المبعدين وكنت هذه المرة من بينهم، وبتاريخ 12/4/1994م، عدت الى نابلس .
وكانت المنطقة تشهد تنفيذ إتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ، حيث كلفت بعد عودتي مباشرة بأن أكون عضواً في لجنة الإرتباط العليا وهي التي أصبحت لاحقا ( وزارة الشئون المدنية ) ثم كلفت من قبل الأخ الرئيس ابو عمار بتولي مهمة أمانة سر إقليم نابلس، وكنت في ذاك الوقت عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، وعضواً في اللجنة الحركية العليا،والتي كانت تقوم بقيادة العمل التنظيمي الفتحاوي في الضفة الغر12/03/2012بية قبل قيام السلطة،وفي السنوات الأولى من عمر السلطة أيضا .
بعد ذلك قرر الأخ الرئيس ابو عمار تشكيل لجنة الطوارئ العليا بقيادته لتتولى الإشراف على العمل التنظيمي في الضفة وغزة، وكانت تلك اللجنة بقيادة الأخ ابو عمار وعضوية بعض أعضاء المجلس الثوري وكنت عضوا فيها أيضا .
في العام 2000م ،تم عقد مؤتمر حركة فتح / إقليم نابلس ،وأنهيت مهامي كأمين للسر، وكلفت بالإشراف على مؤسسة الصخرة الإستهلاكية في الضفة الغربية ، في العام 2005م كلفت من قبل الأخ الرئيس ابو مازن بمهمة وكيل وزارة الداخلية، وعندما عقد المؤتمر الحركي العام السادس تم إنتخابي نائباً لرئيس المؤتمر، ورشحت نفسي في ذات الدورة لأمانة سر المجلس الثوري،وإنتخبت لهذا الموقع وحظيت بثقة الزملاء الأعضاء، ووفقا للنظام الداخلي فأن أمين سر المجلس الثوري مطالب بالتفرغ التام لهذه المهمة الحساسة على صعيد حركة فتح، بعد ذلك تركت العمل في وزارة الداخلية، وتمت ترقيتي لأصبح مستشاراً للسيد الرئيس ابو مازن بدرجة وزير .
حركة " فتح " والهيئة العليا للاسرى تكرمان د. فهد أبو الحاج:
كرمت حركة" فتح" في اقليم رام الله والبيرة والهيئة العليا لمتابعة شؤون الاسرى والمحررين د. فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في جامعة القدس وذلك تقديراً للدور الوطني الذي لعبه ابو الحاج في خدمة الحركة الوطنية الاسيرة خلال العقدين الماضيين من خلال مبادرته الي ادت الى انشاء وتأسيس مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في العام 1995م،بدعم وتشجيع من أ.د. سري نسيبة رئيس جامعة القدس.
وفي كلمته بحفل التكريم قال رائد رضوان أمين سر حركة فتح في إقليم رام الله والبيرة " أن حركة فتح تعتبر نفسها بهذا التكريم، إنما تكرم مناضلاً متميزاً ،تمكن من صناعة شخصيةٌ نضاليةٌ خاصة به، في داخل الأسر أولاً ،عندما تمكن من محاربة أميته ومحوها تماماً، وأوصله هذا المسار الى أن يحصل أخيراً على شهادة الدكتوراه في مضمار العلوم السياسية متخصصاً بتاريخ الحركة الأسيرة ،وبادر الى إنشاء فكرة خاصة ومتخصصة بماضي ومستقبل الأسرى ".
واضاف :" ربما أن أفكار ابو الحاج وتحول هذا الانجاز لاحقا الى صرح شامخ يضم اجزاء كبيرة وهامة من مقتنيات الاسرى الفنية والابداعية بالاضافة الى أرشفة وحفظ المنتج الفكري الثقافي الخاص بالاسرى خطرت على بال الجميع لكنه الوحيد الذي حول الأفكار التي تجول في خواطرنا الى حقائق مادية وملموسة تسعى على الأرض،ولعل هذان الجانبان هما ما يميزان شخصية هذا المناضل الكبير،والذي نحتفي به هذا اليوم، لذا فأن أحتفائنا هو احتفاءٌ متوازن بالأسم والفكرة والإنجاز معاً " .
وقال رضوان :" لقد شكلت هذه القصة الإستثنائية من النجاح مفخرة من المفاخر الإنسانية والعلامات الفارقة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، وعندما نتوقف أمامها ونعيد مراراً سردها أمام الأجيال الجديدة فإنما نهدف الى ترسيخ معانيها الإنسانية العميقة في وعيهم وفي خبرتهم اليانعة الآخذة في التشكل، وتجربة مناضلنا هنا تجلت فيها الإرادة وهي مجردة من أي قوة مادية مسلحة، لا بل أنها كانت محاصرة ومقيدة بالقيود، لذا فأن حركة فتح يشرفها أن تكرم هذا المناضل وهو الى جانب كل ذلك أيضاً أحد قادتها وروادها، أخيراً وفي هذه المناسبة فأنني أدعو كافة المؤسسات الوطنية العاملة في قطاع الأسرى الى توحيد جهودها وبرامجها، من أجل الوصول الى خدمة مميزة ومضاعفة الإنتاجية، بما يخدم في المحصلة قضية الأسرى والأسيرات الفلسطينيين داخل وخارج السجون ".
أما أمين شومان رئيس الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين، فقد قال في كلمته، " أن الأسرى والأسيرات الفلسطينيين ومن كافة الفصائل، عبروا في الماضي، ويثنون حاليا على ما قدمه د.فهد الحاج من خدمات هامة ساهمت في حفظ تراثهم من الضياع والإندثار،من خلال ما يقوم به مركز ومتحف أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس، والذي ولد على راحتي هذا المناضل الوفي،ولعل مركز أبو جهاد بحد ذاته يحمل رسالة وفاء ثلاثية الأبعاد، الأول منها فيتمثل في دور الأسير المحرر أبو الحاج نفسه تجاه زملائه وشركاء مسيرته في تطوعه لخدمتهم في صيانة سيرهم الذاتية وحمايتها من التشويه والحذف والإضافة،وتحويل تاريخ وتراث الأسرى الى مادة ثقافية وعلمية مصانة، أما البعد الثاني من الرسالة فيتمثل في تجسيداً رفيع المستوى من قبل جامعة القدس لدورها ومسؤوليتها الإجتماعية تجاه مجتمعها المدني المقاوم، أما البعد الثالث والأخير فينطوي على تكريم مناسب لسيد شهداء الثورة الفلسطينية ( خليل الوزير – أبو جهاد ) وذلك بإطلاق أسمه على هذا الصرح الهام، كونه كان المهتم الأول من بين قيادة الثورة الفلسطينية بحالة الأسرى ويسهر على الإهتمام بأمورهم وتلق رسائلهم والرد عليها خطياً وشخصياً، أو عبر إذاعة صوت العاصفة ".
واضاف :" أذاً فأننا نقف اليوم أمام حالة مفعمة بالوفاء،أضاف السيد شومان، ستكفل لنا مستقبلا إستنساخها وتكرارها من قبل قطاعات أخرى من قطاعات مسيرة ثورتنا، أما التكريم بحد ذاته فهو القيمة المثلى والفضلى، والتي أتمنى أن تتحول الى نهجاً يحتذى، ويمنح أصحاب الفضل ما يستحقونه من شكر وتقدير،لأن كلمتي الشكر والعرفان عندما تُقلان في مكانهما الصحيحين فأنهما تتممان أية مبادرة خلاقة وجسورة في هذا المجتمع ".
أما أبو الحاج فقد قال في كلمته " في السابق وفي غير مناسبة تم تكريمي، لكن هذا التكريم أقول لكم بحق له طعم ومذاق مختلفان تماماً، فهو يشبه كلمة ثناء صادقة يسمعها الفتى من أمه عندما يقوم بفعل حسن ينال رضاها وتقديرها وإعجابها، وإحساس الأم في تلك اللحظة لا تضاهيه في الصدق أية حالة أخرى مشابه، أما فرحة الولد بفرحة أمه به، فهي قصة أخرى من المستحيل أن تزول وقائعها من ذاكرة ذاك الفتى، وأنا هنا أخوتي وأخواتي أعيش حالة مشابه لحالة ذاك الفتى " .
واضاف :" عندما قررت في داخلي أن أقوم بما قمت به من سعى حثيث مسكون بالصدق والشغف لجمع تراث وميراث الحركة الأسيرة وجمعه في مكان ما، كان يحركني ويدفعني الى تلك الوجهة إحساس دائم ومقيم في داخلي بأنني مدين لهؤلاء الأسرى بشيء كبير، لقد غيرت البصمات الي تركها الأسرى على حالتي ومسيرتي من أمر المصير الذي كان من الممكن أن يبقى ملاصقا لي لو أنني لم أدخل الأسر، فالأسر وفر لي فرصة الإنتقال من الأمية الى التمكن من العلم ،والوصول الى أعلى درجاته ومراتبه ،ففي كل يوم تقريباً أتذكر الأخ الأسير المحرر (عبد المحسن رضوان ) و( محمد لطفي ياسين - أبو لطفي ) و( أسعد ريان) و ( راضي الجراعي ) و (خضر قنداح ) وغيرهم ممن تركوا بصماتهم البيضاء على مسيرة تعليمي وأنا في داخل الأسر، لقد منحتني الحركة الوطنية الأسيرة أمرٌ يضاهي ما منحتني أياه أمي من حليب الحياة، فأذا ما وافقتكم على أن تجربتي متميزة وخاصة ، فأن تلك الخصوصية وذاك التميز يعود الفضل في وجوده في تجربتي الى الحركة الأسيرة وحركتي فتح ، بناء عليه فأي دور تتوقعونه مني تجاه تلك الحاضنة التي أعادت تأهيلي وأخرجتني الى الدنيا بشهادة ميلاد جديدة، بلا شك أنه الشكر الموصول مني ومن أبنائي وذريتهم من بعدهم لحركة فتح وللحركة الوطنية الأسيرة، وهو شكر وعرفان يشبه ما تقدمونه لي انتم اليوم من شكر وتقدير، لكن شكري كان على شكل رؤيا وفكرة قوامها إنشاء مركز لحفظ وحماية وصيانة تاريخ الأسرى والأسيرات الشخصي والجماعي من الضياع والضمور،ويصبح مقاطع متفرقة متناثرة في طول البلاد وعرضها لا يربط بينها أي رابط ، فكان بحمد الله وتوفيقه النجاح بإنتظارنا، فتمكنا من تقديم رواية كاملة عن ملحمتنا لأمتنا وللعالم ،وتخطينا محنة أن يكتب تاريخنا بقلم المغتصب. لذا فأنني اشكر حركتي الرائدة حركة فتح وأشكر الزملاء الحضور والله الموفق . وقد حضر حفل التكريم العديد من قادة وكوادر حركة " فتح " بالاضافة الى رضوان و شومان بينهم نهاد وهدان،وناصر الدمج من مركز ابو جهاد ومحمد عطايا ولورنس وهشام ابو مريم ورزق نوفل من قيادة اقليم رام الله.
يذكر ان مقر مركز ابو جهاد اقيم في البداية قبل حوالي عقدين في مدينة رام الله الى ان دشن المبنى الجديد بتاريخ 6/12/2007 على ارض جامعة القدس ويعتبر هذا المتحف اداة تعبيرية بالغة الدلالة عن معاناة الاسرى والاسيرات الفلسطينين في سجون الاحتلال الاسرائيلي وتحول هذا الانجاز لاحقا الى صرح شامخ يضم اجزاء كبيرة وهامة من مقتنيات الاسرى الفنية والابداعية بالاضافة الى أرشفة وحفظ المنتج الفكري الثقافي الخاص بالاسرى ومنذ تأسيسه وحتى اليوم يواصل المركز توثيق تجارب الاسرى.
مرة اخرى هي الاسيرة هناء الشلبي التي تواصل اضرابها الملحمي عن الطعام لليوم الثاني والثلاثين ، في مواجهة محاولات السلطات الاسرائيلية كسر ارادتها وطرح بدائل تخرج اسرائيل نفسها من هذا المأزق الذي وجدت نفسها فيه مع اضراب الاسير خضر عدنان والان في مواجهة ارادة اسيرة فلسطينية واحدة تمكنت من تعرية تلك الانطمة والقوانين الجائرة التي عفا عليها الزمن والتي يلجأ اليها الاحتلال لتبرير الاعتقالات الادارية وللتستر بها لاخفاء حقيقة الانتهاكات الفظة المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني واسراه.
بما يتناقض مع القانون الدولي الانساني عموما واعلان حقوق الاسنان على نحو خاص ، وهي محاولات اقل ما يقال فيها انها تأتي لاضفاء شرعية على هذه الممارسات مثل اقتراح ابعاد الاسيرة الشلبي الى قطاع غزة او غيره بعد ان غلفت اسرائيل هذا الاعتقال بنظامها القانوني في محاولة تضليل اخرى لا يمكن ان تخفي حقيقة ان هذا النظام القانوني هو نظام احتلال يتنكر حتى للقوانين الخاصة بحالات الاحتلال التي تنص عليها اتفاقيات جنيف.
وفي كل الاحوال فان معركة الارادات التي تخوضها الاسيرة هناء الشلبي وباقي الاسرى مدعومة بهذا التضامن الشعبي والتحرك الرسمي لا يمكن الا ان تضيف ما هو جديد في تداعي وانهيار تلك الانظمة والقوانين الظالمة امام ارادة الحق والعدل والحرية.
سنتناول تجربة الاسير المحرر المناضل امين رمزي مقبول ، امين سر المجلس الثوري لحركة " فتح " .
نبذة شخصية:
هو أمين رمزي مقبول من مواليد العام 1951، متزوج وله ثلاث اولاد ، وقد اعتقل لعشر سنوات من تاريخ 31/3/1973م ،الى تاريخ 30/3/1983م، وحاصل على بكالوريوس علم إجتماع من جامعة النجاح الوطنية ،واثناء دراسته الجامعية ، تولى مسئولية حركة الشبيبة الطلابية ، ثم اصبح عضوا في الهيئة القيادية العليا لقيادة الضفة الغربية في حركة فتح ، ومن ثم امين سر لاقليم فتح في نابلس ، وعضو اللجنة الحركية العليا ، ثم عمل وكيلا لوزارة الداخلية ، ومن بعد عمل كمستشارا للرئيس بدرجة وزير ، وهو الان امين سر المجلس الثوري لحركة فتح ، وقد التقاه طاقم المركز معدا عنه التقرير التالي .
البداية:
التحقت بحركة فتح في عام 1967م، وذلك بعد إستشهاد شقيقي ( منيب ) وكان هذا الحدث السبب المباشر لإلتحاقي بالعمل الفدائي،وقمت بعدة نشاطات مع المجموعات العاملة في منطقة نابلس حينذاك، وكانت ذروة تلك الأنشطة في شهر أيلول 1967م، واضطررت فيما بعد لمغادرة البلاد الى الأردن، ودخلت الأراضي السورية متسللا عبر الحدود للتدرب عل السلاح قاصداً معسكر الهامة بالقرب من دمشق، وكان ذلك في شهر كانون أول 1967م، بعد ذلك عدت الى الأرض المحتلة ومارست العديد من الأنشطة الفدائية أثناء دراستي ، وحصلت على شهادة الثانوية العامة في مدينة نابلس في العام 1970م ، وتوجهت الى العراق لدراسة الهندسة بجامعة الموصل،وخلال دراستي تلقيت العديد من الدورات العسكرية التدريبية وكانت دورات متنوعة ومتعددة الإختصاصات، كالتدريب على إستعمال الأسلحة الخفيفة وصناعة وزراعة العبوات، والتعامل مع المتفجرات، وأثناء زيارتي للأرض المحتلة كنت أقوم ببعض العمليات والأنشطة الفدائية .
وفي بداية العام 1972م ، تلقيت أمرا من القيادة الفلسطينية وقيادة القطاع الغربي ، بضرورة عودتي الى الداخل، وقد حضر الى بغداد الأخ صخر حبش رحمه الله ليبلغني بهذا الأمر، وعرفت فيما بعد بأن هذا الأمر عمم على عشرات الكوادر من سكان الأرض المحتلة من طلاب ومدرسين وعاملين سريين في صفوف الثورة في الخارج، وذلك بهدف إعادة الإعتبار للعمل العسكري في الساحة المركزية ( فلسطين ) بعد خسارة ساحة الأردن والإنتقال الى لبنان،حيث كانت القيادة تواجه مأزقا سياسياً كبيراً بعد حرب أيلول وجرش، وحصاراً عربياً خانقاً، ومساعي عالمية لتصفية القضية الفلسطينية ،وفعلا لقد كان لتلك العمليات في تلك المرحلة نتيجةً سياسيةً هامة، وقد وفرت تلك العمليات أيضاً مناخاً سياسياً ثريا للعمل الدبلوماسي الفلسطيني، وقد أشار الأخ أبو يوسف النجار الى تلك العمليات، أثناء مشاركته في أعمال مؤتمر وزراء الخارجية العرب المنعقد في القاهرة عام 1971م ، وكان حينها يرأس الوفد الفلسطيني المشارك في أعمال تلك الدورة،وأعتبر ذاك الإجتماع من أهم إجتماعات وزراء الخارجية العرب .
وبقيت على هذه الحالة الى أن إعتقلت، بعد إنكشاف أمر عبوةً ناسفةً موقوتةً كنت قد وضعتها أسفل باص إسرائيليا في مدينة نابلس، وانفجرت عبوة أخرى في مكان أخر من المدينة، وقد كانت لهذا التحقيق نتيجة هامة جداً، وهي انه لم يفضي الى الإدلاء بأية اعترافات أخرى على أناس اخرين كان لي بهم صلات عملية وثيقة .
الإعتقال والتحقيق:
في يوم 31/3/1973م ، داهمت قوة كبيرة من الجيش والمخابرات الإسرائيليان منزلي الواقع داخل البلدة القديمة في نابلس، وقد توقعت إعتقالي بعد إعلان الجيش الإسرائيلي عن انفجار العبوات التي كنت قد زرعتها ، فأدركت بأنه قد أمسك بطرف الخيط ، لهذا لم أفاجأ كثيراً عندما سمعت جلبة وضوضاء الجنود حول بيتي ومن ثم اقتحامه واعتقالي
بدأ معي التحقيق ضابط المخابرات ( يونا ) حسبما عرف على نفسه، ووجه لي تهمة زراعة العبوة التي لم تنفجر، وأنني على صلات مع مكاتب الفدائيين في بيروت ودمشق، في البداية أنكرت كل ما أتهمني به ذاك الضابط ، بعد قليل فوجئت بأنهم قد أحضروا أمرأة عرفت لاحقا إنها من قرية أقرت المهجرة في الجليل المحتل، وقالت ، نعم هو ،أنه هو، حتى أنه كان لابس نفس هذه الملابس، الله لا يجبره بدو يقتل ركاب الباص، وقالت ايضاً ،لقد شاهدته يضع القنبلة في الباص، ومن سوء حظي فعلا أنني كنت بنفس الملابس، ولم أقم بإستبدالها عند عودتي الى البيت، ليقيني بأنه لم يراني أو يشتبه بي أحد ما .
فأنكرت من فوري هذه التهمة وغيرها من التهم،فقام رجال المخابرات بإحضار شاهداً ثانياً ، وهو صاحب محل الساعات الذي كنت قد اشتريت من عنده الساعة التي ثبتها على العبوة كمؤقت للتفجير، وكانت المخابرات قد تعرفت من خلال ماركة الساعة على المحل الذي يقوم ببيعها في نابلس، فأحضروه وقدم للمحققين كشفاً بمبيعاته وكنت واحداً من المشترين بطبيعة الحال، وقال بأنه قد باعني ساعتين .
فيما بعد أنضم الى طاقم المحققين ضابطان أخران وهما ( أبو علي ميخا ) و ( كوبي )، أمام هذه التطورات إعترفت بمسئوليتي عن العبوة التي لم تنفجر، والتي شهد علي بها الشهود المذكورين وعن عملية أخرى، وهي تفجير سيارة إسرائيلية أمام مركز الشرطة في نابلس، بعد هذا الإعتراف بدأ ضغط المحققين علي لإجباري على الإعتراف بعبوات أخرى، وقال لي المحقق كوبي ،أنا على يقين بأنك المسئول عن تلك العبوات، لأنها معدة بنفس الطريقة التي صنعت فيها عبوة الباص، وعليها نفس ماركة الساعة التي أشتريتها من الساعاتي الذي تعرف عليك ، فأجبته بأن الذي دربني من الممكن أنه قد درب غيري ،وأنا غير مسئول عن تلك العبوات، ولا علاقة لي بها ، كما مورس علي ضغط وتعذيب شديدين للإدلاء بأسماء شركائي في المنطقة فأجبت بأنني أعمل لوحدي ولا علاقة لي بأحد، لكن المحقق كوبي لم يقتنع بكلامي هذا ومارس ضدي أبشع أنواع التعذيب كالشبح المستمر وتعريتي من ملابسي ووضعي تحت دش المياه الباردة، والضرب الشديد على المنطقة التناسلية، وقال لي ذات يوم لن أتركك حتى تسدد باقي الكمبيالات، وبعد مرور عشرين يوما أقفل التحقيق على هذه النتيجة فقط لا غير ، ومن الجدير ذكره هنا بأنني لم أعترف بأنني قد نظمت في العام 1967م ، بل في العام 1972م .
الدخول الى السجن:
بعد ذلك دخلت الى سجن نابلس المركزي، وأذكر أنني ألتقيت بأسير من سكان الحي الذي أسكنه في مدينة نابلس، وهو من كوادر الجبهة الشعبية وقال لي بعد سلامه علي " يعطيك الحجة والناس راجعه " وقد أستغربت هذا القول، لكنه لم يحدث أي تأثير في نفسي، وكان ذاك الرفيق يقصد بقوله هذا، خسارتنا لحرب أيلول وخروجنا من الأردن، وما سببته هذه النتيجة من شيوع وتفش لحالة الإحباط القوية في الأراضي المحتلة، وكانت إسرائيل بين الفينة والأخرى تقوم ببث إشاعات قوية عن اقتراب موعد تنفيذ إفراجات واسعة في صفوف الاسرى، مما يثير حالة من القلق والترقب والتوتر داخل السجون .
بعد ذلك تعرف علي الإخوة في التنظيم ، واستقبلوني بمزيد من السرور والترحاب،وخاصة بعد أن عرفوا بأنني قد صمدت في التحقيق،وبدؤا يتعرفون على قدراتي الثقافية والمعرفية بشكل تدريجي وأدركوا بأنني أمتلك ثقافة ومعرفة واسعة بأدبيات وفكر الحركة، بسبب الدورات التي كنت أتلقاها في الخارج، ومن الجدير ذكره هنا بأن السجون في ذاك الوقت كانت تفتقر للكفاءات والكوادر المؤسسين ثقافياً وفكرياً، وفي سجن نابلس بدأت نشاطي بكتابة العديد من الدراسات والمقالات التنظيمية والثقافية وأذكر أنني قمت بأعداد دراسة بأسم ( مؤسسات فتح ) ودراسة حول ( المشكلة الكردية ) وأخرى عن ( المضمون الاجتماعي لحركة فتح ) ودراسة عن ( أسس التحليل السياسي ) .
وبعد مرور أشهر قليلة على وجودي في سجن نابلس، جائني مجموعة من الأخوة المناضلين وأبلغوني برغبة القاعدة التنظيمية وقادة فتح في السجن بترشيحي لمهمة الموجه العام للحركة في السجن، فوافقت وقمت بواجبي التنظيمي خير قيام بالتعاون مع الأخوة في اللجنة المركزية، حيث شاركت بإعادة بناء وتشكيل الحالة التنظيمية للحركة ،وتنظيم الجلسات الثقافية والفكرية، والتعليمية، وإقرار نظام محاسبة وعقوبات، وقمنا بإعداد نظام داخلي للسجن مستوحى من النظام الداخلي للحركة، وتمت هيكلة الحركة وفقا لأسس تنظيمية تناسب حالة الأسر، حيث تم تقسيم الأعضاء داخل الغرف الى خلايا تنظيمية وموجهي غرف وموجهي أقسام ولجان إدارية وثقافية ونضالية وجهاز أمن ولجنة مركزية وموجه عام ،وسادت السجن حالة قوية من الإنضباط والإلتزام باللوائح والقوانين التي ساهمت في النهاية من رفع مستوى الأسرى الثقافي والمعرفي،حيث كانت تعقد الجلسات الثقافية بمعدل جلستين في اليوم، أما دورات التعلم كتعلم اللغات ومحو الأمية والتعليم الثانوي، وأنا شخصيا كنت أقوم بتدريس مادة الرياضيات ،وقد ساعدت هذه الظروف بتحسين قدرات الأسرى في التصدي لإدارة السجن، وإتخاذ مواقف نضالية موحدة ضدها من قبل كافة الأسرى، وبتنا نوسع من نطاق مطالبنا المقدمة لإدارة السجن والمطالبة بتحسين شروط وظروف الحياة داخل الأسر كالمطالبة بتحسين نوعية وكمية الأكل، وزيادة وقت النزهة، وتوفير المياه الساخنة للإستحمام، وأذكر في هذا الجانب أننا ذات يوم قد قررنا الدخول في خطوة الإضراب عن زيارة الأهل، وخلال هذا الإضراب توفي والدي ( رمزي مقبول ) رحمه الله ،وجاء أهلي الى السجن لزيارتي إلا أنني أمتنعت عن مقابلتهم التزاماً بالموقف العام للأسرى .
وخلال وجودي في السجن تعرضت لعقوبات كثيرة من قبل إدارة السجون، ونقلت بين السجون ومن سجن الى أخر أكثر من 31 مرة ، ومكثت فترات متفاوتة في سجون بئر السبع وطولكرم والخليل ورام الله والرملة وبيت ليد ونابلس وجنين، وعدد من هذه السجون عدت أليها أكثر من مرة .
سجن الخليل :
نقلت الى هذا السجن في العام 1980م، وفيه واجهت بعض الأمور الهامة،حيث أعدم فيه أثناء فترة إستلامي لمهمة التوجيه العام احد العملاء ، وهي واقعة غير مسبوقة في سجن الخليل منذ تأسيسه عام 1967م، فأصرت إدارة السجن على أنني المسئول عن هذا العمل بسبب إنني قد كنت سابقاً في سجن بئر السبع، وهناك تمت أكثر من عملية إعدام ضد العملاء الذين يتم إكتشافهم داخل السجن، فقررت إدارة سجن الخليل نقلي الى سجن رام الله، إلا أن إدارة سجن رام الله رفضت إستقبالي ،فنقلت الى سجن جنين ومن ثم الى نابلس وقد رفض مدراء السجنين الأخيرين، إستقبالي أيضاً، فتم نقلي الى سجن الرملة، وأودعت هناك في الزنزانة التي مكث فيها المطران إيلاريان كبوتشي ردحاً من الزمن، وكذلك الأسير الياباني ( كوزموتو ) .
وكانت معاملة إدارة سجن الرملة لي في منتهى السوء والقسوة، ولم تلتفت تلك الإدارة لإحتجاجاتي المتواصلة على سوء معاملة السجانين لي ، فأضربت عن الطعام لمدة خمسة أيام، وأمضيت في تلك الزنزانة أياما طويلة من العزلة عن العالم ، غير الاتصال بمجموعة من المساجين الجنائيين اليهود، وكان اؤلئك المساجين يحرضونني على القيام بإحراق البطاطين في زنزانتي، وهربوا لي قداحة من اجل ذلك، وساورتني شكوكاً قوية بأنهم قد دبروا هذا الأمر مع إدارة السجن، على طريق التخلص مني بعد إشتعال الزنزانة وتركي أحترق أو أختنق بداخلها .
في نهاية اليوم الخامس أعلنت عن إنهاء إضرابي عن الطعام وفوضت أمري لله عز وجل، ولاحقا لهذا الأمر علمت بأن زملائي في أكثر من سجن كنابلس المركزي والخليل ورام الله ،بدأوا بالبحث عني من خلال الصليب الأحمر، الذي لم يكن لديه أية معلومات عن مكان وجودي الأخير،وبعد مرور عشرون يوماً على إنتهاء إضرابي عن الطعام نقلت الى سجن طولكرم .
سجن طولكرم:
نقلت الى هذا السجن في بداية العام 1981م، وكان مخصصا لعزل قادة الحركة الأسيرة من مختلف السجون ،وأتممت فيه ما تبقى من فترة محكوميتي، ولا بد من الإشارة هنا الى أنه في ذاك العام روجت إسرائيل لفكرة الإبعاد الإختياري عن البلاد، وعرضت هذه الفكرة على الأسرى أصحاب المحكوميات العالية، لمقايضة حريتهم بالإبعاد، وكنت أنا ممن عرض عليهم هذا الأمر،ولم أستجب كما لم يستجب أياً من الأسرى الموجودين في السجن لهذا العرض،علماً أنه لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعرض فيها علي فكرة الإبعاد ، فقد سبق للمخابرات الإسرائيلية أن عرضت علي الأمر ذاته في أواخر العام 1979م، وكنت حينها في سجن نابلس المركزي، وكان من بين ضباط المخابرات الذين قابلوني من أجل هذه الغاية ضابط المخابرات ،( يونس ) وهو نفسه الذي سلمني أمر الإبعاد في آب 1985م، وقد أصبح هذا الضابط فيما بعد رئيسا لجهاز الشاباك وهو( يوفال ديسكن ) .
في بداية العام 1981م، دخل الأسرى في سجن طولكرم غمار مرحلة نضالية صعبة وقاسية قوامها الإضراب عن الطعام لمدة سبعة عشر يوماً، في اليوم الثاني للإضراب دهمت السجن قوة كبيرة من قوات مصلحة السجون العامة، وقاموا بإخراج الاسرى من الغرف وتم تجريدهم من ملابسهم في ساحة السجن، وأجبروا الأسرى على العودة الى غرفهم وهم يحملون ملابسهم بأيديهم دون السماح لهم بارتدائها حيثما تمت عملية تفتيشهم بقصد الإمعان في إذلالاهم وإهانتهم ،وقاموا بتفتيش الغرف وقلبها رأساً على عقب، وصادروا كل ما صادفوه داخلها كمقتنيات الاسرى الشخصية والأقلام والدفاتر والكتب ، ومشتريات الاسرى من كانتين السجن كالسكر والشاي والقهوة
في نهاية اليوم الثالث بدت علامات التعب على الأسرى لأن ظروف السجن الصحية أصلاً لا توفر العافية المطلوبة لأجساد الأسرى،حيث يقع هذا السجن في منطقة مشبعة بالرطوبة وسط مبنى قيادة الحكم العسكري الإسرائيلي وتحيط به تلك العمارة من الجهات الأربعة، فالشمس والهواء لا تدخلانه بحرية ويسر ولفترة كافية، حيث لا قدرة لبشر للتعامل مع هذا المستوى من الضغط الجوى الرهيب، المشبع بالرطوبة والتعفن، واذكر أن العديد من الأسرى قد تضرروا صحياً ولفترات طويلة بسبب إقامتهم فيه، واذكر منهم الأخ المناضل ( لؤي عبده ) الذي تدفقت من أذنيه الدماء ذات يوم ، بسبب إرتفاع الضغط داخل الغرف، وما زال يعاني من صم جزئي في أذنيه منذ ذلك الوقت ولغاية الآن،بسبب ذلك فأن المطلب الأول لذاك الإضراب كان المطالبة بإغلاق السجن نفسه، ونقل الأسرى منه الى سجون أخرى أقل قسوة ،وفي فورة اليوم الثاني لبدء الإضراب تناقص عدد الاسرى الذين يخرجون من الغرف الى ساحة النزهة بسبب تمكن التعب والإعياء من عضلات أجسادهم، حيث لم يتمكنوا من قطع المسافة الواصلة بين الغرفة وتلك الساحة .
وأمضى غالبية الأسرى ما تبقى من أيام المواجهة الصامتة طرحاء فراشهم ،لا يقومون منه إلا بقصد الوصول الى الحمام لقضاء الحاجة، وأذكر أنه في اليوم الخامس إزدادت وطأة الإضراب،وخيم على المكان شبح الموت، والكوابيس المشابهة، وقلة النوم والقلق ،وقد أنبرى قسم من الأسرى بالفعل لكتابة وصاياهم ورسائلهم الأخيرة لذويهم، وخلال هذا الإضراب لم تحاول إدارة السجن إجبارنا على تناول الطعام بالقوة ، بسبب الضحايا الذين سقطوا جراء إتباع هذه الوسيلة داخل السجون، وخاصة خلال إضراب سجن نفحة الشهير، في نهاية اليوم السابع عشر استدعت إدارة السجن ممثل الاسرى ومعه اللجنة النضالية وفاوضتهم على مطالبهم ، ووافقت على العديد منها بإستثناء مطلب إغلاق السجن وانتهى الإضراب .
التحرر من الأسر:
في نهاية اليوم الأخير من العام العاشر، أفرجت عني إدارة سجن طولكرم، وأود ان أقول لك حقيقة عشت معها طيلة تلك السنين العشرة التي أمضيتها خلف قضبان الأسر الإسرائيلي، وهي أنني قد تمكنت بالفعل من التعايش مع ظروف السجن على نحو مكنني من هضم الأيام والتغلب على قسوتها،شأني في ذلك شأن آلاف الأسرى الذي أسرهم المحتل الإسرائيلي، حدث ذلك بسبب إستغلالي للوقت على نحو مثالي وتمكنت من تجزئة وتقطيع الوقت وتوزيع ساعاته على برامجي الخاصة والعامة والمكونة من الاهتمام بالقراءة والكتابة والتلعم والتعليم، والعمل التنظيمي والنضالي ومقارعة إدارة السجن ، في الشهر الأخير من أيام وجودي في الأسر ، تأملت جيداً السنوات العشر الأخيرة من عمري على مهل، وعلى قسوتها فإنها مرت كلمح البصر، ولعل هذا هو سر نجاح الحركة الوطنية الاسيرة داخل السجون الإسرائيلية، وهو ان الأسرى أحسنوا إستغلال الوقت ، ولم يتركوه يتحكم بهم إنما العكس هو ما حصل .
وفي هذا السياق كان للمستقبل النصيب الأكبر من تفكيري خلال الأيام الأخيرة لي في الأسر، ولم أتمكن من رسم صور واضحة المعالم للطريق التي ينبغي علي ان أسلكها مستقبلاً، في خضم هذا العصف الذهني الخاص مابين الأيام التي مضت والأيام القادمة، فتحت أمامي أبواب سجن طولكرم وكان ذلك في يوم الأرض 31/3/1983م ، فوجدت أهلي في الانتظار أمام بوابة السجن، وكانت مدينة طولكرم تخضع لنظام حظر التجول العسكري بسبب المواجهات التي اندلعت في الصباح، وفي طريق العودة الى المنزل لم نسلك الطرق المعتادة للسير بل اعتلينا الجبال وسرنا في طرق جبلية ووعرة، وعندما وصلنا نابلس كانت هي الأخرى تخضع لذات الحظر على التجوال، الذي فرضته دوريات الجيش الأسرائيلي التي تجوب الشوارع الخالية من الناس في وسط نابلس، رغم ذلك وصلت الى البيت داخل البلدة القديمة .
وقد قدمت هذه الظروف الصاخبة لي وصفاً تمهيدياً للشكل الذي يمكن أن تكون عليه أيامي القادمة وقوامها أنه يجب علي التعايش مع شكل جديد من أشكال المواجهة في الهواء الطلق مع المحتل، ومع لحظة دخولي لمنزلنا ومكان نشأتي وخروجي الى هذه الدنيا، بدأت بالسلام على عتبة البيت وأبوابه، وعلى جدران الحي وزقاقه وأقواسه المدلية من السماء، وعلى أبواب وشبابيك الغرف المرابطة في الأزقة وفي دهاليز البلدة القديمة .
وبعد رفع حظر التجول بدأ الأهالي في الجوار ومن باقي المحافظات بالتوافد على منزلنا للسلام علي وتهنئتي بالتحرر من أسر الإحتلال ، بعد مرور أسبوع على خروجي من الأسر بدأت بالإتصال مع الأخوة والزملاء الاسرى الذين تحرروا قبلي، والتقيت العشرات منهم، وفي هذه الأثناء جائني أمراً تنظيمياً من الأخ ابو جهاد رحمه الله ، وطلب فيه مني الإلتحاق بجامعة النجاح الوطنية، علما أن ميولي كانت باتجاه العمل النقابي،وقد برز هذا الميل لدي بعد ان كلفت بالتدخل في تسوية بعض المشكلات المتعلقة بهذا القطاع في منطقة نابلس .
وبالفعل توجهت لجامعة النجاح وسجلت في كلية الآداب، حيث لم يكن من السهل علي مواصلة تخصصي العلمي السابق في جامعة الموصل ( الهندسة ) بسبب إنقطاعي عن هذا المضمار ومقرراته طيلة عشرة أعوام مضت، بعد فترة قصيرة من الزمن تم إنتخابي كرئيس لحركة الشبيبة الطلابية في الجامعة، وكنت عضوا في اللجنة القيادية لمنطقة الضفة الغربية، والتي كانت تعمل تحت إمرة الأخ ابو جهاد، وخلال هذه الفترة من ترأسي لحركة فتح في الجامعة بدأ إتصالي بمكتب الأرض المحتلة في إطار قيادة القطاع الغربي وكان يشرف على ذاك المكتب الأخ المناضل زهير مناصرة ،وكنت بسبب تعدد الأدوار التي كلفت بها على إتصال دائم ووثيق مع غالبية الكادر القيادي للحركة ، وكنت أقوم بناء على ذلك بزيارات متواصلة للمؤسسات الطلابية والعمالية والنقابية، في الضفة الغربية وقطاع غزة .
في منتصف العام 1984م، تعرضت من جديد للإعتقال أثر إشرافي على تنظيم مهرجان فلسطين داخل جامعة النجاح،وقد توافد على الجامعة لحضور هذا المهرجان جماهير غفيرة من كافة محافظات الوطن، بلغ عديدهم أكثر من عشرون ألف زائر وزائرة ،وفوجئنا في نهاية اليوم الثالث للمهرجان بمداهمة جيش الاحتلال للمهرجان والقيام بتحطيم محتوياته وتم اعتقالي في مساء ذاك اليوم، وتم التحقيق معي بتهم متعددة .
رسالة الأخ أبو جهاد للتحضير للإنتفاضة:
وكانت التهمة الرئيسة الموجهة لي في هذا التحقيق، هي أنني تلقيت رسالة من الأخ أبو جهاد موجهة لقيادة التنظيم في الضفة الغربية، للمباشرة في تشكيل لجان شعبية ولجان أحياء، في كل مدينة وقرية ومخيم، تمهيدا للقيام بأنشطة نضالية ميدانية واسعة النطاق، وصولاً الى عصيان مدني شامل،وقد كان مع المحققين نسخة من تلك الرسالة التي عثروا عليها خلال عملية المداهمة التي قاموا بها للجامعة، وعلى ما أظن ان عملية الاقتحام نفسها كانت بسبب هذه الرسالة، وقد عثروا عليها بجانب ماكينة التصوير، حيث أنني كلفت أحد الأخوة بالقيام بتصوير عشر نسخ منها، وهي عبارة عن رسالة مكتوبة بخط اليد ومكونة من عشر صفحات A4 ، وأنتهى التحقيق معي بعد ثمانية عشر يوماً ، بدون أن يحصل المحققون مني على كلمة واحدة، وهنا أود أن أقول أمرا هاماً موجهاً لجماهير شعبنا، وهي كلمة حق بحق الأخ القائد الشهيد خليل الوزير أبو جهاد،وهو أن فكرة الإنتفاضة أو الهبة الجماهيرية الشاملة والمتفجرة أتقدت في ذهنه بعد الخروج من بيروت مباشرةً ، ولا زلت أذكر ما قاله ذات يوم أمام بعض القيادات الفلسطينية في العام 1983م " الآن وبعد كل هذه الحروب لا بد من حركة جماهيرية متفجرة "
الإقامة الجبرية والإبعاد:
بعد الإفراج عني ، فرضت سلطات الإحتلال العسكري الإسرائيلي في آيار / 1985م ،الإقامة الجبرية علي داخل المنزل، وإلزامي بالتوقيع على سجل إثبات وجود يومي لدى مركز الشرطة الإسرائيلية في مدينة نابلس، وطلب مني عدم الإقتراب من منطقة جامعة النجاح
في مساء يوم 28/8/1985م، داهمت قوات كبيرة من جيش الإحتلال منزلنا في البلدة القديمة، وكان على رأس تلك القوة ضابطاً من المخابرات الإسرائيلية يدعى ( الكابتن - يونس )،الذي أصبح لاحقاً رئيساً لجهاز الشاباك كما ذكرت، وكان يحمل بيده أمر إبعادي عن الديار موقعا من قائد المنطقة العسكرية الوسطى الإسرائيلي، ونقلت الى سجن جنيد، وقد شهدت تلك الليلة حملة إعتقالات واسعة ، وكان الجيش الإسرائيلى زمن ذاك ينفذ سياسة القبضة الحديدية، وقد حول بموجبها عشرات الأسرى للإعتقال الإداري المفتوح ، وأنا بدوري رفضت قرار الإبعاد واستأنفت عليه أمام المحاكم في نابلس والمحكمة الإسرائيلية العليا في القدس،والتي رفضت بدورها إستئنافي وأقرت قرار الإبعاد، مدعمة قرارها بعشرات التقارير السرية .
وفي يوم 2/10/1985م ، حملني الجنود الإسرائيليون الى منطقة وادي عربا، وكان في الجانب الأردني ينتظرني مجموعة من الجنود الأردنيون ووسائل الإعلام ،لأن خبر الإبعاد كان قد نشر عبر وسائل الإعلام في اليوم السابق ، واستقبلني ضابطاً من الجيش الأردني برتبة مقدم، حيث قام من فوره بمواساتي بكلمات طيبة ورقيقة تعبر عن مشاعر أخوية صادقة، وأنا لم أتماسك وسالت دموعي على وجنتي، وانتظر الصحفيين أمامي لأكثر من عشرين دقيقة حتى تمكنوا من الحصول على كلمة واحدة مني تعقيبا على قرار إبعادي ، بعد وصولي الى عمان استقبلني الأخوة في مكتب قيادة الوطن المحتل والذي يرأسه الأخ ابو جهاد ، والتحقت بعملي في هذا المكتب على الفور،وتوليت مسئولية الاتصال مع قيادة التنظيم في الداخل، واستمر هذا الوضع الى ان قررت الحكومة الأردنية خطوة إبعاد الأخ ابو جهاد عن الساحة الأردنية، بسبب وجود تهديدات إسرائيلية باغتياله فوق الأراضي الأردنية، بسبب الأنشطة التي يقودها عبر الأردن في الأرض المحتلة، وتبعاً لذلك قامت الأردن بإغلاق مكاتب القطاع الغربي، وإبعاد الأخ زهير مناصرة الى بغداد،وتم إعتقال العديد من القادة والكوادر من قبل المخابرات الأردنية، فوقع الحمل الأكبر من المهمات على عاتقي،وخلال هذه المرحلة إندلعت الإنتفاضة الفلسطينية الكبرى 1987م، وإستحوذت تلك الإنتفاضة على إهتمام ورعاية القيادة الفلسطينية، وأصبحت الملف الأول لدى الجميع .
بعد إستشهاد الأخ ابو جهاد بسبب دوره في تفجير وقيادة الإنتفاضة، ترأس الأخ أبو عمار مكتب الأرض المحتلة،وإستمر العمل في هذا المكتب تحت قيادة الرئيس ابو عمار حتى العودة الى الوطن .
العودة الى الديار:
مع بدء مفاوضات الرواق في واشنطن في العام 1993م ، والتي قادها الأخ فيصل الحسيني وحيدر عبد الشافي، طلب الأخ الرئيس ابو عمار من وفدنا الطلب من واشنطن وإسرائيل الموافقة على إعادة المبعدين من الضفة وغزة ، ليساهموا في التحضير لإنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة ،وقد وافقت إسرائيل على إعادة جزء من المبعدين في بداية العام 1994م، بعد ان شطبت أسماء كثيرة من القائمة الأولى وكان أسمي من بين الأسماء التي شطبت، وبعد تكرار المحاولة من جانب الوفد الفلسطيني وافقت إسرائيل على عودة دفعة ثانية من المبعدين وكنت هذه المرة من بينهم، وبتاريخ 12/4/1994م، عدت الى نابلس .
وكانت المنطقة تشهد تنفيذ إتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ، حيث كلفت بعد عودتي مباشرة بأن أكون عضواً في لجنة الإرتباط العليا وهي التي أصبحت لاحقا ( وزارة الشئون المدنية ) ثم كلفت من قبل الأخ الرئيس ابو عمار بتولي مهمة أمانة سر إقليم نابلس، وكنت في ذاك الوقت عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، وعضواً في اللجنة الحركية العليا،والتي كانت تقوم بقيادة العمل التنظيمي الفتحاوي في الضفة الغر12/03/2012بية قبل قيام السلطة،وفي السنوات الأولى من عمر السلطة أيضا .
بعد ذلك قرر الأخ الرئيس ابو عمار تشكيل لجنة الطوارئ العليا بقيادته لتتولى الإشراف على العمل التنظيمي في الضفة وغزة، وكانت تلك اللجنة بقيادة الأخ ابو عمار وعضوية بعض أعضاء المجلس الثوري وكنت عضوا فيها أيضا .
في العام 2000م ،تم عقد مؤتمر حركة فتح / إقليم نابلس ،وأنهيت مهامي كأمين للسر، وكلفت بالإشراف على مؤسسة الصخرة الإستهلاكية في الضفة الغربية ، في العام 2005م كلفت من قبل الأخ الرئيس ابو مازن بمهمة وكيل وزارة الداخلية، وعندما عقد المؤتمر الحركي العام السادس تم إنتخابي نائباً لرئيس المؤتمر، ورشحت نفسي في ذات الدورة لأمانة سر المجلس الثوري،وإنتخبت لهذا الموقع وحظيت بثقة الزملاء الأعضاء، ووفقا للنظام الداخلي فأن أمين سر المجلس الثوري مطالب بالتفرغ التام لهذه المهمة الحساسة على صعيد حركة فتح، بعد ذلك تركت العمل في وزارة الداخلية، وتمت ترقيتي لأصبح مستشاراً للسيد الرئيس ابو مازن بدرجة وزير .
حركة " فتح " والهيئة العليا للاسرى تكرمان د. فهد أبو الحاج:
كرمت حركة" فتح" في اقليم رام الله والبيرة والهيئة العليا لمتابعة شؤون الاسرى والمحررين د. فهد ابو الحاج مدير عام مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في جامعة القدس وذلك تقديراً للدور الوطني الذي لعبه ابو الحاج في خدمة الحركة الوطنية الاسيرة خلال العقدين الماضيين من خلال مبادرته الي ادت الى انشاء وتأسيس مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الاسيرة في العام 1995م،بدعم وتشجيع من أ.د. سري نسيبة رئيس جامعة القدس.
وفي كلمته بحفل التكريم قال رائد رضوان أمين سر حركة فتح في إقليم رام الله والبيرة " أن حركة فتح تعتبر نفسها بهذا التكريم، إنما تكرم مناضلاً متميزاً ،تمكن من صناعة شخصيةٌ نضاليةٌ خاصة به، في داخل الأسر أولاً ،عندما تمكن من محاربة أميته ومحوها تماماً، وأوصله هذا المسار الى أن يحصل أخيراً على شهادة الدكتوراه في مضمار العلوم السياسية متخصصاً بتاريخ الحركة الأسيرة ،وبادر الى إنشاء فكرة خاصة ومتخصصة بماضي ومستقبل الأسرى ".
واضاف :" ربما أن أفكار ابو الحاج وتحول هذا الانجاز لاحقا الى صرح شامخ يضم اجزاء كبيرة وهامة من مقتنيات الاسرى الفنية والابداعية بالاضافة الى أرشفة وحفظ المنتج الفكري الثقافي الخاص بالاسرى خطرت على بال الجميع لكنه الوحيد الذي حول الأفكار التي تجول في خواطرنا الى حقائق مادية وملموسة تسعى على الأرض،ولعل هذان الجانبان هما ما يميزان شخصية هذا المناضل الكبير،والذي نحتفي به هذا اليوم، لذا فأن أحتفائنا هو احتفاءٌ متوازن بالأسم والفكرة والإنجاز معاً " .
وقال رضوان :" لقد شكلت هذه القصة الإستثنائية من النجاح مفخرة من المفاخر الإنسانية والعلامات الفارقة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، وعندما نتوقف أمامها ونعيد مراراً سردها أمام الأجيال الجديدة فإنما نهدف الى ترسيخ معانيها الإنسانية العميقة في وعيهم وفي خبرتهم اليانعة الآخذة في التشكل، وتجربة مناضلنا هنا تجلت فيها الإرادة وهي مجردة من أي قوة مادية مسلحة، لا بل أنها كانت محاصرة ومقيدة بالقيود، لذا فأن حركة فتح يشرفها أن تكرم هذا المناضل وهو الى جانب كل ذلك أيضاً أحد قادتها وروادها، أخيراً وفي هذه المناسبة فأنني أدعو كافة المؤسسات الوطنية العاملة في قطاع الأسرى الى توحيد جهودها وبرامجها، من أجل الوصول الى خدمة مميزة ومضاعفة الإنتاجية، بما يخدم في المحصلة قضية الأسرى والأسيرات الفلسطينيين داخل وخارج السجون ".
أما أمين شومان رئيس الهيئة العليا لمتابعة شؤون الأسرى والمحررين، فقد قال في كلمته، " أن الأسرى والأسيرات الفلسطينيين ومن كافة الفصائل، عبروا في الماضي، ويثنون حاليا على ما قدمه د.فهد الحاج من خدمات هامة ساهمت في حفظ تراثهم من الضياع والإندثار،من خلال ما يقوم به مركز ومتحف أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس، والذي ولد على راحتي هذا المناضل الوفي،ولعل مركز أبو جهاد بحد ذاته يحمل رسالة وفاء ثلاثية الأبعاد، الأول منها فيتمثل في دور الأسير المحرر أبو الحاج نفسه تجاه زملائه وشركاء مسيرته في تطوعه لخدمتهم في صيانة سيرهم الذاتية وحمايتها من التشويه والحذف والإضافة،وتحويل تاريخ وتراث الأسرى الى مادة ثقافية وعلمية مصانة، أما البعد الثاني من الرسالة فيتمثل في تجسيداً رفيع المستوى من قبل جامعة القدس لدورها ومسؤوليتها الإجتماعية تجاه مجتمعها المدني المقاوم، أما البعد الثالث والأخير فينطوي على تكريم مناسب لسيد شهداء الثورة الفلسطينية ( خليل الوزير – أبو جهاد ) وذلك بإطلاق أسمه على هذا الصرح الهام، كونه كان المهتم الأول من بين قيادة الثورة الفلسطينية بحالة الأسرى ويسهر على الإهتمام بأمورهم وتلق رسائلهم والرد عليها خطياً وشخصياً، أو عبر إذاعة صوت العاصفة ".
واضاف :" أذاً فأننا نقف اليوم أمام حالة مفعمة بالوفاء،أضاف السيد شومان، ستكفل لنا مستقبلا إستنساخها وتكرارها من قبل قطاعات أخرى من قطاعات مسيرة ثورتنا، أما التكريم بحد ذاته فهو القيمة المثلى والفضلى، والتي أتمنى أن تتحول الى نهجاً يحتذى، ويمنح أصحاب الفضل ما يستحقونه من شكر وتقدير،لأن كلمتي الشكر والعرفان عندما تُقلان في مكانهما الصحيحين فأنهما تتممان أية مبادرة خلاقة وجسورة في هذا المجتمع ".
أما أبو الحاج فقد قال في كلمته " في السابق وفي غير مناسبة تم تكريمي، لكن هذا التكريم أقول لكم بحق له طعم ومذاق مختلفان تماماً، فهو يشبه كلمة ثناء صادقة يسمعها الفتى من أمه عندما يقوم بفعل حسن ينال رضاها وتقديرها وإعجابها، وإحساس الأم في تلك اللحظة لا تضاهيه في الصدق أية حالة أخرى مشابه، أما فرحة الولد بفرحة أمه به، فهي قصة أخرى من المستحيل أن تزول وقائعها من ذاكرة ذاك الفتى، وأنا هنا أخوتي وأخواتي أعيش حالة مشابه لحالة ذاك الفتى " .
واضاف :" عندما قررت في داخلي أن أقوم بما قمت به من سعى حثيث مسكون بالصدق والشغف لجمع تراث وميراث الحركة الأسيرة وجمعه في مكان ما، كان يحركني ويدفعني الى تلك الوجهة إحساس دائم ومقيم في داخلي بأنني مدين لهؤلاء الأسرى بشيء كبير، لقد غيرت البصمات الي تركها الأسرى على حالتي ومسيرتي من أمر المصير الذي كان من الممكن أن يبقى ملاصقا لي لو أنني لم أدخل الأسر، فالأسر وفر لي فرصة الإنتقال من الأمية الى التمكن من العلم ،والوصول الى أعلى درجاته ومراتبه ،ففي كل يوم تقريباً أتذكر الأخ الأسير المحرر (عبد المحسن رضوان ) و( محمد لطفي ياسين - أبو لطفي ) و( أسعد ريان) و ( راضي الجراعي ) و (خضر قنداح ) وغيرهم ممن تركوا بصماتهم البيضاء على مسيرة تعليمي وأنا في داخل الأسر، لقد منحتني الحركة الوطنية الأسيرة أمرٌ يضاهي ما منحتني أياه أمي من حليب الحياة، فأذا ما وافقتكم على أن تجربتي متميزة وخاصة ، فأن تلك الخصوصية وذاك التميز يعود الفضل في وجوده في تجربتي الى الحركة الأسيرة وحركتي فتح ، بناء عليه فأي دور تتوقعونه مني تجاه تلك الحاضنة التي أعادت تأهيلي وأخرجتني الى الدنيا بشهادة ميلاد جديدة، بلا شك أنه الشكر الموصول مني ومن أبنائي وذريتهم من بعدهم لحركة فتح وللحركة الوطنية الأسيرة، وهو شكر وعرفان يشبه ما تقدمونه لي انتم اليوم من شكر وتقدير، لكن شكري كان على شكل رؤيا وفكرة قوامها إنشاء مركز لحفظ وحماية وصيانة تاريخ الأسرى والأسيرات الشخصي والجماعي من الضياع والضمور،ويصبح مقاطع متفرقة متناثرة في طول البلاد وعرضها لا يربط بينها أي رابط ، فكان بحمد الله وتوفيقه النجاح بإنتظارنا، فتمكنا من تقديم رواية كاملة عن ملحمتنا لأمتنا وللعالم ،وتخطينا محنة أن يكتب تاريخنا بقلم المغتصب. لذا فأنني اشكر حركتي الرائدة حركة فتح وأشكر الزملاء الحضور والله الموفق . وقد حضر حفل التكريم العديد من قادة وكوادر حركة " فتح " بالاضافة الى رضوان و شومان بينهم نهاد وهدان،وناصر الدمج من مركز ابو جهاد ومحمد عطايا ولورنس وهشام ابو مريم ورزق نوفل من قيادة اقليم رام الله.
يذكر ان مقر مركز ابو جهاد اقيم في البداية قبل حوالي عقدين في مدينة رام الله الى ان دشن المبنى الجديد بتاريخ 6/12/2007 على ارض جامعة القدس ويعتبر هذا المتحف اداة تعبيرية بالغة الدلالة عن معاناة الاسرى والاسيرات الفلسطينين في سجون الاحتلال الاسرائيلي وتحول هذا الانجاز لاحقا الى صرح شامخ يضم اجزاء كبيرة وهامة من مقتنيات الاسرى الفنية والابداعية بالاضافة الى أرشفة وحفظ المنتج الفكري الثقافي الخاص بالاسرى ومنذ تأسيسه وحتى اليوم يواصل المركز توثيق تجارب الاسرى.