سؤال الأسرى متى الصبح يا أمي؟- د. سعيد يقين
أعتذر بداية من أستاذ السياسة الذي علمنا يوماً أن لغة القلب لا مكان لها في السياسة، ثم أعتذر ثانية أن ظهر في هذه السطور بعضاً من البديهيات أو ما هو في حكمها، وثالثاً أعتذر لكل أسير إن لم تطاوعني اللغة في إحكام دقة التعابير أمام شدة الألم. كثيراً ما فشلت أن أكتب نصاً عن الأسرى أو لهم أو فيهم... وقد حاولت ولكن المداد كان جافاً جداً.. فلم أشعر مرة أني أصبت ما أريد، فتنتهي السطور إلى قصاصات صغيرة تذروها الرياح. وكنت أنتهي إلى القول أن الصمت مع الأسرى أكثر عمقاً وقيمة من الكتابة ذات الطابع العابر. فالأنكى من الكتابة العابرة هو نكأ الجراح التي لا تحتمل نصاً مجاملاً سيبقى بالتأكيد دون مستوى لحظة واحدة من الألم. وأشد ما يؤلم/ يؤلمني، شخصياً هو الأطناب في المديح الركيك الذي لا يرقى إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية والوطنية نحو هؤلاء الأسرى في مناسبة أو دونها، أو استخدام التعابير الضخمة التي يفيض بها معجم البطولة الشاعري الفروسي في الثقافة العربية التي لا تستوعب مثلاً دمعة الأسير كأي كائن بشري في لحظة ألق أو عشق، أو شوق أو حزن أو يأس؟
بالتأكيد إن هناك قضايا فلسطينية كبرى لا يختلف عليها أحد مع آخر، ولكن بالتأكيد أن هناك أولويات أيضاً، ومن هذه الأولويات "الضاغطة" هي قضية الأسرى ... قيل فيها ما قيل في القضايا الكبرى، فالأولى في علم الطوارئ اسعاف/ انقاذ الجريح قبل إخلاء الميت، والأولى في علم السياسة تحقيق الممكن أو القريب منه قبل الاقتراب من الهدف الأعلى. فإذا كان الهدف الأعلى تنييض البلاد من الاحتلال فإن الهدف الممكن والأساس يفترض بداهة تبييض السجون من نزلائها؟ فهل كان تبييض السجون لحظة أوسلو وما تلاها ممكناً؟ هناك إجابتين لا ثالث لهما في لغة الخطاب السياسي الفلسطيني: الأولى نافية، من زاوية أن إسرائيل أرادت اختبار حُسن النوايا الفلسطينية إزاء عمليات الانسحاب المتدرج وبالتالي فما انسحب على الأرض انسحب على المعتقلين بالإفراج والتحرير المتدرج. والثانية قالت: أن الإفراج عن الأسرى كان ممكناً وفي متناول اليد من زاوية أن اعتراف إسرائيل بحركة التحرر الوطني الفلسطيني على طريق الاعتراف بحق تقرير المصير كان يوجب على إسرائيل أن تعترف بالأسرى كأسرى حرب وهذا يعني بداهة تحرير كافة المعتقلين دون قيد ولا شرط ودون الدخول في جدل تصنيفات الأسرى المعروفة في لغة الخطاب الأمني- السياسي الإسرائيلي.
لكني على يقين أن الإجابتين قد جانبتا الحقيقة سواء في موضوع الأرض أو الأسرى، فدولة الاحتلال لم تعترف أبداً بأراضي الضفة الغربية كإقليم محتل ولم يوضع هذا الاعتراف يوماً على طاولة نقاش جدول أعمالها بدليل الوقائع الاستيطانية ونقل مواطنيها (بلغة القانون الدولي) لإسكانهم في هذا الإقليم... وهذا موضوع يطول شرحه، كذلك كان الأمر مع المعتقلين، فإذا كان الأمر مع إقليم الضفة الغربية بتأبيد البقاء اليهودي فيه كمقولة توراتية، فإن الأمر الآخر المرتبط به كان تأبيد بقاء الأسرى الفلسطينين في السجون كمقولة سياسية وأمنية.
أثبتت الوقائع فعلياً أن سؤال الانسحاب الكامل والشامل من أراضي الضفة الغربية لم يكن له مكاناً أبداً على جدول أعمال أية حكومة إسرائيلية، وكذلك الحال وبنفس درجة الثبات الواقعي فأن المؤسسة السياسية والأمنية في إسرائيل لم تفكر لحظة واحدة بإطلاق سراح الأسرى كنتاج واستحقاق سياسي بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية على لسان رابين لياسر عرفات.
انتهى النقاش في إسرائيل عند حدين، اتضح أنه لا يمكن لحكومة في هذه الحالة الكولونيالية (إسرائيل) أن تتجاوزهما وهما: تأبيد احتلال الضفة الغربية بالوقائع الاستيطانية وإدارة المناطق شبه السيادية الفلسطينية فيها عن بعد، أو قرب حسب هذا الموقع الجغرافي أو السكاني الفلسطيني أو ذاك، وتأبيد فعلي لمن شاءت له الأقدار أن يحكم من قبل قضاة هذه الدولة العسكريين بالسجن المؤبد أو ما هو قريب منه بحكم مقرر بعدد من السنوات قد تتجاوز العقود الثماني مثلاً.
إذا كان هذا هو الواقع المؤكد لكل فلسطيني، وهو الواقع المؤكد الذي أصبح طاغي الحضور على جدول الأعمال الدولي الذي تبنى هذه الوقائع الاحتلالية والذي أخذ يقول بمنطق تبادل الأراضي، الذي يعني جوهرياً، أن هذا العالم الذي أعطى إسرائيل شرعية تامة مطلقة لإسرائيل الدولة عام 1948، قد قرّر مرة أخرى أن يستجيب لجدول الأعمال الإسرائيلي ويعطي شرعية أخرى لدولة مستوطنين في الضفة الغربية التي شرعت إسرائيل في التاسيس لها منذ لحظة إقامة أول مستوطنة في إقليم الضفة الغربية عام 1967.
ضمن دائرتي الجغرافيا والديموغرافيا في فلسطين، وتفاعلهما الطبيعي التاريخي، وفي إطار الاستهداف الدائم لهذا التفاعل الممتد زماناً ومكاناً، كان فعل الاعتقال والأسر والاحتجاز عملاً مؤسساتياً لم يستهدف ردع الفعل التاريخي الكفاحي المضاد للاستعمار الاستيطاني الاحلالي، وإنما تحويل عملية الاعتقال من وسيلة استعمارية إجرائية نمطية لتحقيق السيطرة المطلقة على الأرض وضبط حركة الإنسان أو نفيه أو تغييبه عن مكانه في نفس المكان، إلى فعل يستهدف أصلاً الاعتقال كهدف بحد ذاته يجمع كل المتخيلات الدينية المسيانيه. ولأن المؤسسة الاعتقالية الاحتلالية أرادت فعل الاعتقال كفعلاً متحققاً وغاية مسيانية، فإن عدم الاعتراف بالأسرى الفلسطينيين كأسرى حرب وعدم الاستجابة لهذا المطلب الفلسطيني تحديداً بعد الاعتراف المبتادل لحظة أوسلو، يجعلنا نتساءل في بداهة ساذجة عن جدوى العملية السياسية سواء في شطرها الذي استمر عشر سنوات، أو في حالتها المتقطعة البائسة المتعثرة الثانية؟
بناءً على ذلك، فإننا نعتقد أن الأسير الفلسطيني الذي أثّر في التاريخ الفلسطيني الحديث بقدر ما تأثر به، ومارس بهامته وجرحه، ودمعته وشوقه، وعذابه، وغربته، ووجعه وكلمته ولوحته ورحيله ومرضه وانتظاره وحلمه واستثنائه وصمته وصراخه وصبره وضعفه وحضوره وغيابه... هو بما هو عليه ليس قضية من قضايا التفاوض الانتقالية أو النهائية، أنه الشرط الأول لطقوس أو مراسم المنصه. أنه معنى الوجود الفلسطيني، الممزق الحائر المنقسم... جسد برمزية القيد أعمق صورة لمعنى الاحتلال، وأعمق صورة لحلم غامر لانكسار القيد يوماً ما. لا يوجد في تاريخ حركات التحرر في العالم أسيراً واحداً امتثل نفسياً لقيد الاحتلال أو امتثل للسجن كمحطة أخيرة لحياته وخلع نعليه امتثالاً لقدر الطغيان، ومن نفس الموروث التاريخي لحركات التحرر فإنه لا يوجد عملية تفاوض واحدة بدأت مع المستعمر أو أن شئتم الاحتلال ألاّ وتأسست بداهة على تحرير الأسرى ليس كشرط وإنما كمعطى بديهي غير خاضع لشرط أو قيد.
يا أسياد الذكرى... ويا ذكرى الوطن، أنتم الكاشفون للعورة، والساترون للخطيئة، القابعون في دمنا ولحمنا وعظمنا، وماضينا وحاضرنا، وليلنا ونهارنا. أنتم الزمن الماضي وسلوى الأيام وانبلاج الفجر. أنتم الجرح والفرح والألوان الأربعة والجهات الأربع واركان البيت الأربع، أنم اللحظة والأفق الممتد والفجر المشرق والليل الجميل والبوصلة الصحيحة والربيع الواعد... أنتم بحرنا وسواقينا وجبالنا، عودتنا ومنفانا ... أنم وحدتنا الأكبر، ملحنا وعطرنا، لغتنا وأغنيتنا... السلام عليكم يوم ولد كل واحد فيكم ويوم تدمع عيون محبيكم، ويوم نحضن كل واحد فيكم.
لا شيء إلاّ صوتكم لا يعلوه صوت... ولا يحجبه مدىً زمنياً أو فيزيائياً، نجلس في حضرتكم جماعة أو فرادى، أو نستظل في ظلالكم يوم تكشف الشمس غيمة عابرة تمر في سماء بلادنا، نستحضركم حين تخون الذاكرة أحدنا وتصبح فلسطين وكأنها بلا بحر ولا ميناء ولا فضاء، نلوذ إليكم لحظة البرد العاصفة القارصة باحثين عن دفء وحدتنا التي عبرنا فيها الصحراء ورفعنا الخيمة في وجه الريح. نستقوي بكم حين المرور عند الجدار الممتد الذي يحجب الرؤيا والعنوان والمكان... ويحجب الشمس أيضاً...