الغور بعد 45 عاما من "النكسة"
جميل ضبابات
تظهر علامات حيوية لثلاثة جيوش حطت رحالها في وسط منطقة الأغوار: الجيش الانجليزي، والأردني، والإسرائيلي.. لكن الأخير أقام بنيته فوق ركام قرية فلسطينية كان تعداد سكانها نحو 3000 لاجىء فلسطيني.
والرؤية المعدومة بسبب الزوابع على بعد مئات الأمتار نحو الشرق قرب قرية الجفتلك شرق الضفة الغربية، ظهيرة يوم قائظ لا يمكن أن تحجز خلفها الحقيقة؛ لا بنايات لجيش المملكة المتحدة، ولا معسكر مهجور للجيش الأردني، ولا مستوطنة "مسواة"، وهي واحدة من المستوطنات التي بنيت بعد سنوات من اجتياح إسرائيل للضفة الغربية عام 1967....ولا بقايا لقرية فلسطينية أبيدت، كانت تسمى العجاجرة.
الغور، جرن العسل الممتليء الذي كان محط إطماع إسرائيل، الأرض الخصبة التي شكلت ممرا لاحتلال أجزاء من الضفة الغربية قبل 45 سنة يقع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي بالكامل من ناحية عملية، وتستغل المستوطنات موارده.
وعمليا هذا تنفيذ لخطة "الون" الإسرائيلية من جوانبها الاقتصادية والعسكرية بصمت ودون إعلان.
وكان وزير العدل الإسرائيلي يغال الون اقترح في أواخر الستينيات أن يبقى غور الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية إضافة إلى منطقة "غوش عتصيون" وجزء من جبل الخليل وما يسمى "القدس الموحدة".
وخسر الفلسطينيون طيلة أربعة عقود ونصف، معظم مساحة الغور لصالح المستعمرات الإسرائيلي، فجزء من خطة ألون كان يستهدف المنطقة برمتها. فعلى امتداد عشرات الكيلومترات زرع النخيل وبات مصدرا اقتصاديا ضخما لمجالس المستوطنات.
وتظهر مزارع النخيل علامة الاقتصاد الاستيطاني الواضحة في المنطقة. وبدأت عمليات الاستيطان على يد سلاح الناحل "نوعار حلوتس لوحيم"؛ إذ بنيت العديد من المواقع الاستيطانية التي سميت باسم "ناحل"على طول خط الهدنة ومناطق الغور.
وعزلت السلطات الإسرائيلية في هذه المنطقة الحدودية مليونان ومئتا ألف دونم، لا يستفيد منها الفلسطينيون شيئا منذ عام 67.
وأنهى الوجود الفلسطيني كليا في تلك المنطقة منذ الأيام الأولى لسيطرة إسرائيل على الضفة الغربية.
عمليا يمكن لإسرائيل أن تبتلع دولة فلسطين من هنا من الأغوار، عبر قطع امتدادها الجغرافي مع جارتها الأردن. ولوحت إسرائيل كثيرا بفزاعة اسمها الجبهة الشرقية من اجل تبرير سيطرتها القائمة على منطقة الغور. لكن بعد سنوات طويلة من احتلال الغور، ذهبت إسرائيل بعيدا في تعزيز السيطرة الاقتصادية بذريعة أمنية.
كانت رياح التغيير هبت على الغور منذ اليوم الأول لحرب 1967 عندما طرد الرعاة من مناطقهم وهدمت القرى الصغيرة القريبة من نهر الأردن.
وثمة نحو 10 قرى هدمت ورحل سكانها في ذلك العام كانت مبنية على امتداد عشرات الكيلومترات في الشريط الغوري.
المشهد اليوم في الغور، بالكامل عسكري، الوجود الاستيطاني الإسرائيلي هو الطاغي. فقد تحولت الكيبوتسات الزراعية اليهودية الصغيرة إلى مستوطنات كبيرة تشكل رافدا مهما للاقتصاد الإسرائيلي النامي بفعل السيطرة على الأرض الخصبة ومصادر المياه.
وغير مرة، أعلن رؤساء حكومات إسرائيل نيتهم تعزيز تلك السيطرة على هذه المنطقة الإستراتيجية التي تشكل 25% من مساحة الأرض الفلسطينية التي احتلت عام1967، في سياق الخطة الإسرائيلية الرسمية التي أُطلق عليها اسم "تعزيز السيطرة على غور الأردن".
وغير مرة، أكد المسؤولون الفلسطينيون أنه لن تقوم دولة دون أن يكون الغور جزء منها. لكن هذه المنطقة الجغرافية التي تشكل الوجه الشرفي لفلسطين، قد تكون الآن في المراحل النهائية للسيطرة على مواردها.
لا أثر ظاهرا هنا، فلا بشر ولا حياة على بعد كيلومترات قليلة من الحدود، ثمة حدود تشكل في جوهرها الجغرافي أزمة مؤجلة تتعلق بحدود الدولة الفلسطينية على أراضي عام 1967.
المار عبر طريق (90) الذي يقطع المنطقة الشرقية من الضفة الغربية من الشمال نحو الجنوب يدرك أنه لا حاجة لإعلان رسمي إسرائيلي عن سيطرة كاملة على المنطقة. ما يجري على ارض الواقع من بناء مستوطنات وافتتاح مشاريع زراعية استيطانية يكاد ينطق باسم "ألون" كل يوم.
والعزل مستمر. وهدم المضارب مستمر منذ 45 عاما.
ومن أجل الوصول إلى شارع ألون (578) يتوجب على السكان الفلسطينيين العبور عن طريق مستوطنة روعي. لكن الوصول إلى عمق الجبال المطلة على نهر الأردن أمر مستحيل الآن.
لقد طبقت إسرائيل في المنطقة سياسة خرم الإبرة، لحشر الفلسطينيين بين الحواجز وبين الجبال.
كانت هذه خطة إسرائيل غير المعلنة، عبر التخلص من الوجود الفلسطيني وإنهاء التجمعات الحضرية التي نشأت في الإربعينيات والخمسينيات في المنطقة، عبر الإفراغ التدريجي للحياة الفلسطينية.