حمدين.. البديل الثالث وتصحيح الثورة- عبدالعال الباقوري
البديل الثالث هو تشكيل يساري أساسا، ولكنه يجب أن يكون مفتوحا ومتاحا لقوى وطنية أخرى تؤيد الأفكار والأهداف العامة لهذا البديل أو التيار، وهذه فرصة بل لحظة تاريخية للحشد وجمع الشمل، واللحظات التاريخية الفاصلة لا تتكرر كثيرا في حياة الأمم والشعوب
ما إن بدأ إعلان النتائج شبه الرسمية لانتخابات الرئاسة، وما إن بدأت أرجحية هذا المرشح أو ذاك، وتراجع آخرين، إلا وتواتر الحديث علي ألسنة كثيرين من أهل السياسة عن التيار الثالث أو البديل الثالث. وكانت وراء هذا الحديث ظاهرة وضحت معالمها وهي الصعود البارز للمرشح ابن الشعب حمدين صباحي، الذي وصفه كثيرون، حتى قبل إجراء الانتخابات بأنه «الحصان الأسود». وهو تعبير غير دقيق لأن من تأمل بعمق قائمة المرشحين من جميع الاتجاهات كان من السهل عليه أن يرى أن حمدين صباحي هو التعبير الصحيح عن ثورة 25 يناير، وأنه يتبنى بحق أهداف الثورة في.. العيش والحرية والكرامة الإنسانية. صحيح أنه لم يكن وحده في رفع رايات هذه الأهداف، فقد رفعها آخرون، ولكن كان واضحا أنه كان منذ شبابه الباكر صاحب مسيرة تكاد لم تنحرف يوما عن العمل الجاد من أجل تحقيق هذه الأهداف.
عن فكرة البديل الثالث
وفكرة البديل أو الخيار أو الطريق الثالث أو إن شئت فقل بتعبيرات الأستاذ عبد الغفار شكر الكاتب السياسي المعروف «تحالف الثورة» فكرة ليست بنت اليوم، ليست وليدة الحدث الثوري في يناير 2011 وتطوراته ومشكلاته وعقباته، إنها فكرة لها تاريخ في الواقع المصري، إنها تكاد تكون المعادل المصري للجبهة الوطنية، إنها «تجمع» دون أحزاب، وربما دون أيديولوجية لأن الجامع بين مكوناتها هو أفكار وأهداف عامة، وكان حزب «التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» قد دعا في منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى إقامة أو إنشاء البديل الثالث، كان هذا في فترة احتد فيها الصدام بين أهل الحكم من جانب والإرهاب باسم الإسلام من جانب آخر. ويومئذ أعد الأستاذ عبد الغفار شكر، وكان يومئذ عضو المكتب السياسي لحزب التجمع ومسؤول التثقيف، ورقة متكاملة، أثارت نقاشا خصبا في داخل مستويات الحزب المختلفة، ومع جدية الفكرة وأهميتها إلا أن حزب التجمع لم يستطع ـ لأسباب متعددة ـ ترجمتها بشكل عملي، وإن ظل من الناحية النظرية حريصا في تلك السنوات على تمايز مواقفه في مواجهة كل طرف من طرفي النزاع والصراع والقتال (كان بعض اليساريين خارج التجمع يرون في هذا الاقتتال جانبا إيجابيا يكمن في تعبيره عن الخروج على الحاكم، وهذا نقيض ما تذهب إليه الجماعات السلفية من تحريم الخروج على الحاكم).
ومع ذلك يمكن القول إن فكرة «البديل الثالث» التي طرحها حزب التجمع في التسعينيات كانت فكرة أصيلة وعميقة، وظلت منذئذ تحلق في سماء السياسة المصرية، بل كانت لها أصول عربية، وقد ترددت منذ شهور في الدعوة إلى منظمة باسم «التيار العام»، ولكن يبدو أنها فتت سريعا إلى أن عادت إلى الحياة اليوم. بعد بروز الأستاذ حمدين صباحي في معركة انتخابات الرئاسة، حيث تحلق حوله تحالف شعبي واسع هو تحالف ثورة 25 يناير، ممثلا في شرعيتها العمرية الأساسية وهي شبان وشابات ما بين 18 و35 عاما، وهؤلاء حوالي 60% من تعدد الشعب المصري.
ومن الناحية الطبقية، فإن ثورة 25 يناير هي ثورة أبناء الطبقة الوسطي الذين انضم إليهم عمال وفلاحون وجنود. كما التحق بها، منذ أواخر 2011، جماعات من أبناء العشوائيات.. وقد وجد هؤلاء في حمدين تعبيرا صادقا عنهم، ومعهم قيادات ممن يسمون صناع الرأي العام، مثل الدكتور محمد غنيم مؤسس مركز الكلى في المنصورة ذي المستوى العالمي، والموسيقار عمار الشريعي، والروائي بهاء طاهر والمخرج السينمائي خالد يوسف والكاتب والنقابي الصحفي جلال عارف، والدكتور عمار علي حسن خير من كتب عن الصوفية والسياسة، والأستاذ عبد الخالق فاروق صاحب الباع الطويل في مطاردة الفساد بالكتابة عنه والدكتورة ماجدة غنيم أستاذ الاقتصاد الزراعي وغيرهم وغيرهم، ممن يصدق عليهم وبحق «أبناء الشعب»، بصرف النظر عن أصولهم الطبقية، ويمكن نقرأ هنا تعبير «ابن الشعب» على أنه «المثقف العضوي» كما حدده مفكر إيطالي معروف.
البديل الثالث الذي التف حول حمدين صباحي وآزره يمثل أهمية كبيرة في هذه الفترة من عمر ثورة يناير، إنه تصحيح للثورة ليس بالمعنى الحرفي لهذا، بل بمعنى إعادة الشيء لأصله من حيث جوهر الفكرة «وهي هنا شعار» والتكوين «شرائح طبقية متعددة» والهدف، وهو نظام ديمقراطي، يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية، وكرامة إنسانية يصونها استقلال وطني كامل بعيد عن أية تبعية لأية قوة أجنبية.
وهذه أهداف تستحق أن تتجمع حولها قوى اليسار بالمعنى الواسع والفضفاض، بحيث لا تغرق نفسها في الصراع الفكري والأيديولوجي «وهو مهم ومطلوب» بل تجمع قواها وتغرس أقدامها في طين الواقع المصري، في القرى والعزب والكفور والنجوع، في المصانع والمعامل، وفي العشوائيات، وفي المساجد والكنائس، وفي جموع المتصوفين.. أليست هذه هي مصر التي خاطبها حمدين صباحي، فاستجابت له، طوبى لكل من يناصره، ويضع معه لبنة في بناء وإقامة وتدعيم البديل الثالث.
فرصة تاريخية.. وخريطة طريق
البديل الثالث هو تشكيل يساري أساسا، ولكنه يجب أن يكون مفتوحا ومتاحا لقوى وطنية أخرى تؤيد الأفكار والأهداف العامة لهذا البديل أو التيار، وهذه فرصة بل لحظة تاريخية للحشد وجمع الشمل، واللحظات التاريخية الفاصلة لا تتكرر كثيرا في حياة الأمم والشعوب، وإذا لم يتم ابتهالها بسرعة تبددت وضاعت، ولكن هذه فرصة يجب ألا تضيع، بل يجب اغتنامها والبناء عليها ولعل القوى الناصرية المشتتة والقوى الماركسية المتعددة ليست في حاجة إلى من يذكرها بأنه حين خرج الناصريون من حزب التجمع تركوه ضعيفا، ولم يبنوا هم تنظيما قويا، فمن يعيد البناء؟
أرجو أن يكون صحيحا النبأ الذي نشرته صحيفة «المصري اليوم» يوم الثلاثاء الماضي على لسان حسين محمد سامي رئيس «حزب الكرامة» من أن حزبه سيسعى لتوحيد الناصريين في كيان واحد. مستفيدين من صعود صباحي، و«الكرامة» أصلا هو حزب حمدين صباحي الذي صعد إلى مستوي التعبير عن قوى اتجاهات أوسع وأكبر.. وبالمثل، لعل صوتا يخرج من بين اليساريين والماركسيين يدعو إلى العمل المشترك والانخراط في البديل الثالث أو تحالف الثورة.. إن هذه الفرصة المتاحة أمام القوى اليسارية بعامة تذكرني بما أشرت إليه، من كلمات سمعتها تليفزيونيا من الشيخ ناجح إبراهيم قيادي «الجماعة الإسلامية» المعروف، حول الفرص الثلاث التي أضاعتها الحركات الإسلامية المصرية الحديثة، وتحذيره من إضاعة الفرصة الرابعة الحالية، وقد وجدت كلماته وتحذيره هذا مسطورين في كتاب أصدره بعنوان «خارطة طريق للحركة الإسلامية المعاصرة».
كتب الشيخ ناجح أن أولى الفرص الثلاث الماضية كانت فترة الحرب العالمية الثانية، حينما أعطى مصطفى النحاس باشا الإخوان حرية الدعوة في مصر كلها، والثانية فيما بين 1952 ـ 1954 فترة الوصال بين الإخوان وعبد الناصر، والثالثة في عهد الرئيس السادات والتي انتهت بمقتله.
وأضاف أنه تأمل الفترات الثلاث فوجد أن الحركات الإسلامية أضاعت هذا الفرص الثمينة «لتقديمها العاطفة على الحسابات العقلية.. ورغبتها في دغدغة العواطف قبل بث العلم الدقيق والفقه المنضبط.. وإغفالها في كل الحالات الثلاث لفقه الأولويات وفقه المصالح والمفاسد، ورغبتها في بعض الأحيان في الاستحواذ على كل شيء».
لم يقف قيادي «الجماعة الإسلامية» عند هذا بل شفعه برجاء أن يكون حظ الإسلاميين بعد ثورة 25 يناير ـ وهي الفرصة الرابعة ـ أوفر، وأن يقرؤوا تاريخ التجارب الثلاث السابقة بدقة، ويعالجوا الأخطاء التي وقعت فيها من قبل.
لن أنهج نهج الشيخ ناجح، بل أرجو أن يقرأ اليساريون من شتى الاتجاهات كلماته، وأن يستفيدوا منها، وألا يدعوا هذه الفرصة تضيع منهم.. سعيا دؤوبا وسريعا إلى جمع الشمل، وتوحيد الموقف، واصطفافا حول حمدين صباحي اليوم قبل الغد.. ومن يفعل هذا لن يخسر شيئا سوى ضعفه وتشرذمه، وانكماشه على ذاته، وأتمنى أن تتخلص القوى اليسارية من كل هذا.