الشاعر المقاتل عبد الرحيم محمود: "موت يُغيظ العدى"
اليوم تمر علينا ذكرى استشهاد الشاعر الكبير عبد الرحيم محمود شهيد الشجرة والذي استشهد بتاريخ 13-7-1948 وهو والد الطيب عبد الرحيم عضو اللجنة المركزية لحركة فتح.
عبد الباسط خلف-
ترسم ذاكرة طارق عبد الكريم محمود، صورة لعمه الشاعر والشهيد عبد الرحيم محمود، الذي قضى في الثالث عشر من تموز 1948:" كان وجهه مستديراً، حنطي اللون، وجبهة عريضة، أذكر عيونه السوداء اللامعة، وبذلته الكاكية، ومسدسه على شماله في زنده الأحمر. ولا أنسى كيف كان يداعبنا ويعطينا المصروف بالملات(العملة الفلسطينية وقتئذ)، ويضحك بصوت عالٍ، وله هيبة قوية، ويتحدث بطلاقة. وأتذكر دائما وداعه الأخير لنا وللبلد، رغم صغري سني يومها"
يسترد طارق عبد الكريم الشاعر وأستاذ اللغة العربية الذي أبصر النور عام 1942، ولا زال مدرسًا في نابلس: ولد عمي في الحارة التحتا ببلدتنا عنبتا، عام 1913، وكان جدي الحاج محمود عبد الحليم أزهرياً وعالم دين ويفتي للناس في زمن الأتراك. ولا زال البيت كما هو، وقد رممته بلدية عنبتا، وصاراً معلما بارزا.
وقع طارق في حب أشعار عمه، وأعاد رسم مشاهد علاقته به في كتاب أصدره العام 1990، واختار له مع ابن عمه أديب رفيق عنوان:" عبد الرحيم محمود: بين الذاكرة والوفاء"، وأورد قصصاً خاصة، لشهيد معركة الشجرة، وصاحب قصيدة ذائعة الصيت، مطلعها:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردي
فإمّا حياة تسرّ الصديق
وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
يقول لـ(ألف): " زرتُ قبر عمي في الناصرة مراراً، وعملت مع جمعية "الصوت" ومركز إحياء التراث في الطيبة نصباً تذكارياً له، واخترنا أن نكتب على جهاته الثلاث آيات قرآنية، ونبذة عن حياته ونضاله، ومقطوعات من أشعاره. وفي كل مرة أزور فيها الناصرة، تعود بي الذاكرة إلى العام 1948، واليوم الذي سقط فيه عمي شهيدًا، ولحظات إصابته في المعركة، وطريقة نقله إلى إحدى مستشفيات الناصرة، التي لم يعرف الأطباء فيها طريقاً لوقف نزف جراحه، حتى فارق الحياة مع طلوع الفجر"
مما لا يسقط من أوراق ذاكرة طارق، مقاطع من حياة عمه الشهيد، فقد درس في عنبتا الابتدائية وطولكرم الابتدائية، ثم في مدرسة النجاح الوطنية في نابلس، التي صارت جامعة لاحقاً. عمل مدرساً للأدب العربي في مدرسة النجاح الوطنية. وعندما انطلقت الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936، ترك وظيفته والتحق في صفوف المقاتلين في جبل النار، وطاردته قوات الاحتلال البريطاني بعد توقف الثورة، فهاجر إلى العراق حيث أمضى ثلاث سنوات دخل فيها الكلية الحربية ببغداد، قبل أن يعود إلى فلسطين العام 1942. وكان أحد رجال ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م، لكن هذه الثورة أخفقت، فعاد في نفس العام إلى فلسطين، وتزوج بابنة خاله.
يضيف بابتسامة لطيفة: "روت لي جدتي كاملة أنها وقعت في خلاف مع عمي محمود، بعد أن وصل من العراق، واختارت لي اسماً لكنه أصر على أن يكون اسمي طارق. وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية مرة أخرى عقب قرار تقسيم فلسطين العام 1947، انضم عمي إلى صفوف الثوار، حتى استشهد."
وكان الأمير سعود بن عبد العزيز في زيارة للقدس عام 1935م، فاستقبله الشاعر الشهيد بقصيدة جاء فيها:
يا ذا الأمـيرُ أمـامَ عينك شاعـرٌ
ضُمت على سود الهموم أضالعُهْ
المسجـد الأقصى أجـئتَ تـزورُه
أم جئت من قَبْلِ الضياع تودِّعُهْ
حَـرَمٌ يُبـَاح لكـل أحـمقَ آبِـقٍ
ولكل أفّاقٍ شريدٍ أرْبُعُـهْ
وغَدًا ـ وما أدناه ـ لا يَبقى سوى
دمعٍ لنا يهمي وسِـنٍّ نَقْرَعُهْ
وتلقى محمود تدريبا عسكريا عام 1948م، وانضم إلى جيش الإنقاذ العربي معاونا لقائد فوج حطين، الذي أشعل الأرض نارا في وجه اليهود في معارك عديدة وقطاعات مختلفة، حتى جاءت معارك قرية الشجرة قضاء طبريّة قرب مستوطنة "إيلانيا سَجيرا" ؛ ففي شباط من عام 1948 قُطعت المواصلات المؤدية إلى المستوطنة، واتسع نطاق المعارك ليتحول في أبريل من العام ذاته إلى معارك عنيفة للغاية، ازدادت ضراوتها في أيار من العام نفسه. إلى أن قصفت المدفعية العربية مستوطنة "سجيرا"، وأصبح المقاتلون العرب على أبوابها. وهنا أُوقف القتال تنفيذًا لاتفاقية الهدنة الأولى، التي استغلها اليهود في تقوية دفاعاتهم ومضاعفة تسليحهم، وبانتهاء تلك الهدنة قامت القوات الصهيونية بهجوم كبير على منطقة الشجرة مستخدمة لأول مرة، الطائراتِ والمدفعية، فتساقط الشهداء العرب، وبدأت ذخيرتهم في النفاد، وظهرت احتمالات انسحاب القوات العربية من منطقة الشجرة ما سيؤدى إلى سقوط الناصرة، فلجأ العرب إلى هجوم كبير مضاد مكّنهم من رد اليهود والسيطرة على منطقة الشجرة، لكنهم تكبدوا خسائر فادحة، منها: إصابة قائد فوج حطين بجراح بالغة، واستشهاد المقاتل الشاعر عبد الرحيم محمود، يوم الثالث عشر من تموز عام 1948.
يقدم الملازم عبد الرازق المالكي ،من أفراد جيش الإنقاذ الذين حضروا المعركة شهادة تقول: "تقدم أبو الطيب عبد الرحيم محمود بأفراد سَرِيته وأدار المعركة، وكسر الطوق عن العرب المحاصَرين، وأصيب بقنبلة أثناء الزحف، وفارق الحياة بعد أقل من ربع ساعة، وسحبناه على الأرض وسط رصاص المعركة الكثيف إلى قرية "طرعان" القريبة، ونقلناه منها في سيارة عسكرية إلى الناصرة، وشُيع جثمانُه من المستشفى إلى المقبرة الإسلامية فيها".