دفاتر المجانين - أحمد دحبور
يذكر الكثيرون من أبناء جيلي، ومن سبقوهم، وبعض من أتوا بعدهم، تلك الجدران المضرجة بخطوط الأشقياء، وربما الظرفاء، الذين كان يصفون حساباتهم مع خصومهم، بعبارات هجائية أو بذيئة، من نوع فلان كسلان أو فلان حمار.. وقد يتطرف بعضهم فيجنح إلى الفضائح البريئة وغير البريئة، من نوع «فلانة تحب ابن فلان»، أو «فلان هو الذي سرق بيت فلان».. ولم تكن تلك العبارات الطائشة لتشغل العقلاء في كثير.. ولكن يحدث أن العيار الذي لا يصيب يدوش، كما يقال في الأمثال، فتستدرج كلمة نافرة بعض الكبار العصبيين و«يعملها الصغار فيقع في شرها الكبار».. وبهدف اطفاء الحرائق حتى قبل اشتعالها، كان الكبار والعقلاء يعممون كلاماً يستخف بالكتابة على الجدران، كأن تقرأ مثلاً أو تسمع جملة من نوع «الحيطان دفاتر المجانين»..
وحقيقة الأمر أن الجدران دفاتر المجانين فعلاً، أو هي دفاتر عديمي المسؤولية.
ولم يكن يبقى من خربشات المجانين أو عديمي المسؤولية، إلا بقايا خطوط باهتة سرعان ما يمحوها الزمن، أو نوادر طريفة يتسلى بها من يشاء التسلية..
ومن باب الطرافة لا أكثر، يمكن أن تدخل الحداثة على الخط، فإذا بدفاتر المجانين التي كنا نحفل بها ونحن أطفال، تتحول في هذه الأيام، إلى الانترنت وصفحات الفيسبوك، فترى من يرتجل موقعاً باسم التواصل الاجتماعي، ليصفي حسابه مع من لا يحب، تماماً كما كنا ونحن صغار، نصفي حساباتنا مع منافسينا من الشياطين الأشقاء الصغار.
أصبح من الممكن مثلاً، أن يفاجئنا أحد مواقع الفيسبوك برأي خطير، أو باساءة إلى أشخاص قد نعرفهم أو لا نعرفهم، مع اختباء المفتري وراء المجهول، حتى إن المفترى عليه لا يعرف من الذي تحرش به أو أساء إلى سمعته، وتنشأ حساسيات مجانية سرعان ما تتحول إلى عداوات، ومجنون رمى في البير حجر، مئة عاقل ما طالوه..
أراهن أن هذه الخاطرة، إذا قرئت، ستفتح شجوناً لدى كثيرين وقعت لهم مشكلات في الفيسبوك، أو لبعض أصدقائهم أو معارفهم على الأقل.. فهنا شخص عابر، لا له ولا عليه، يقرأ فجأة أنه مليونير وأن ثروته من صندوق عام.
وهنا آخر تتهمه الكتابات الرعناء بالعمالة، وهناك ثالثة يشهر بشرفها مجنون مكبوت لم يستطع أن ينالها.. وقس على ذلك.. والمشكلة دائما في دفتر المجانين المعاصر، أن التهمة تسجل على مجهول، لكن ما في النفس يؤثر في النفس، فإن الأمر لا يخلو من تهمة هنا، وتراشق هناك. وهات حلها..
ليس معنى هذا الكلام أن نصادر حق جيل الحداثة في أن يعبر عن نفسه من خلال وسائل الاتصال الاجتماعي، فالفيسبوك وأخواته، اليوم وغداً منجزات المدنية المتحضرة ولا يمكن العودة القهقرى بعد أن تورطنا في السباق الحضاري، وأصبحنا جزءاً من العالم المعاصر..
وكما كانت دفاتر المجانين تزعج بعض المفترى عليهم ثم يمحوها الزمن، فإن الأخطاء ممكنة الوقوع في الانترنت، ولا يمكن الحل بأسلوب الدب الذي قتل صاحبه لأنه حاول أن يرد الذبابة عن وجهه..
ومع ذلك تظل المشكلة قائمة..
أعرف شخصاً، مثلاً، تعرض للاعتقال والضرب والاهانة في أحد الأنظمة البوليسية، وبعد أن أفرج عنه بأسبوع، قرأ في أحد مواقع الانترنت أنه عميل مخابرات لدى النظام الذي حبسه وأهانه، ونحن نعرف انتشار الانترنت، فمن سيطول الحجر الذي رماه في البئر مجنون أو حاقد موتور؟..
وأعرف أيضاً وأيضاً، أحد المثقفين المستقيمين الذين يسددون قروضهم بشق النفس، ولكن الموقع إياه يصفه بالمتكسب الـ....
وما من حلول عملية لهذه الظاهرة إلا بتسفيهها وادانتها والتشهير بالقائمين عليها..
وإذا كان حسن حظي قد ساعدني حتى الآن في أنه لم يظهر من يفتري على سمعتي أو يسيء، فإن عدم تعرضك للأذى لا ينفي أن هناك سواك ممن تعرضوا ويتعرضون..
واذا لم يكن الحل، عندما كنا صغاراً، في تهديم الجدران المكتوب عليها، ذلك الكلام السخيف، فليس الحل بطبيعة الحال هذه الأيام أن نحرق مواقع الانترنت.. وإن كانت الأخلاق الجمعية تلزمنا أن نميز بين هذا المنجز الحضاري ودفاتر المجانين..