الكثرة- فؤاد أبو حجلة
من أكبر مساوئ الديمقراطية المجردة المنزوعة الروح اعتمادها نظرية الأغلبية أو الأغلبية الساحقة التي تتكون في العادة من الفئات والشرائح المسحوقة.
ومن أخطر تعبيرات الديمقراطية المنزوعة الروح اعترافها بحق الأكثرية في الحكم والسيادة وصنع القرار، رغم أن الأكثرية في الشرق وفي الغرب أيضا تتكون من مجاميع بشرية غالبا ما تخلو من المبدعين والقدرات الاستثنائية التي تحتكرها النخب.
لكن الديمقراطية كل لا يتجزأ، ومكوناتها حزمة غير قابلة للتقسيم والاستثناء. لذا نقبل الديمقراطية على علاتها، والعمل على تطوير الوعي الجمعي لتقليل الخسائر الناجمة عن الاستسلام إلى أغلبيات شرقية مسكونة بهواجس الماضي وهموم الحاضر، وعاجزة عن تلمس أطراف مستقبلها.
تدرك واشنطن ما الذي يعنيه حكم الأغلبية في العراق وفي ليبيا وفي تونس وفي مصر، وتطمئن مسبقا إلى مخرجات أي عملية انتخابية من دون الحاجة إلى تزوير الأصوات وقلب الصناديق. وندرك نحن خطورة التراجع عن الخيار الديمقراطي مهما كانت سلبية نتائج هذا الخيار، لأن الديمقراطية مسيرة طويلة تستمد قوتها ورسوخها من التغيير الذي ينبغي أن يواكب الحياة.
كان «بسمارك» يقول إن الأكثرية العددية لا تعني شيئا، ولا تترجم صحة الموقف دائما، لأن عشرة حمير لا تفهم أكثر من انسان واحد!
استطاع «بسمارك» بناء بروسيا العظيمة، ولم يكن وزير داخليته «مترنيخ» إنسانا ديمقراطيا، لكن المرحلة التاريخية في ألمانيا والنمسا آنذاك كانت تستوجب وجود قيادة قوية حتى لو انتهكت حقوق الانسان، ونشأت معادلة رضيها أهل البلاد ونصت على “القمع مقابل البناء”. ثم تلاحقت مراحل التغيير والتطور حتى وصلت ألمانيا الى ما هي عليه الآن من صدارة في ديمقراطيات أوروبا والعالم معتمدة معادلة مختلفة تنص على “احترام الحرية مقابل البناء” لأن الشعب، ومن خلال مؤسساته الديمقراطية، هو الذي يبني البلاد ويحميها.
«ستالين» لم يختلف كثيرا عن «بسمارك» في هذا السياق، وقد استطاع بناء الاتحاد السوفييتي الذي تدلل روسيا الآن على عظمته.
في بلادنا، لم يكن عبد الناصر وصدام حسين رحيمين في التعامل مع المعارضة، التي تعني النقيض في الحالة العربية، لكن الرئيسين استطاعا بناء دولتين قويتين تطلب إضعافهما جهدا أميركيا وغربيا امتد عشرات من السنين.
هناك نماذج كثيرة في المنطقة وفي العالم لزعماء لم يعرفوا بديمقراطيتهم لكنهم عرفوا بانجازاتهم في خلق كيانات سياسات واقتصادية قوية ومكتفية، وهناك نماذج أكثر لزعماء اعتمدوا الديمقراطية الغربية في إدارة دول ضعيفة وتابعة ومسلوبة الإرادة.
في المشهد العربي حيث يبرز دور الفرد أكثر من دور الجماعة تتغير الصورة الآن، ويجري دفع الأغلبيات إلى الواجهة، لكن الديمقراطية لا تزال غائبة، وفي الدول التي لم تشهد ثورات ولا حراكات إصلاحية يواصل الزعيم الفرد تمسكه بعقيدة الحكم العربي المستمدة من الاعتماد الكلي على القمع، لكن هذا القمع العربي يجيء ويتواصل بلا بناء.
هل يمكن أن نحلم بديمقراطية تدفع إلى الواجهة أكثرية تبني وتحترم حق الانسان في الحياة؟
جواب السؤال مرتبط بنتائج الثورات العربية القادمة.