هاني الحسن الرجل المسرع في مسار البرق- بكر أبو بكر
هاني الحسن لحظة الاشراق الأكيد، والنفرة للحجيج، وسقاية القافلة. ادركناه حيث الخيول جامحة، والبنادق تلتقط الأمنيات الشامخة. اتفقنا معه واختلفنا لكنه علمنا أصول الاختلاف في دائرة الحوار، أحببناه جبلا أشم وعلما راقيا وسياسيا يحترم كلمته وفتحويا صلبا وشجرة نخيل .
غاب الحبيب ولكن شمسه لا تغيب، وسقط الشهيد ولكن سعيه خالد، ورحل المفكر العروبي الاسلامي وعلمه فينا ثابت، وترجل الثائر في 6/7/2012 بعد رحلة نضالية طويلة ولكن أثره لا يزول. الى رحمة الله وجناته ووجدت ان للرجل أفضالا جعلتني أضمن هذه المقدمة ما كتبته عنه قبل سنوات في النص المرفق.
عندما يدخل مكانا أو جمعا أو فكرا يثير من حوله زوبعة، وعندما يتوقف ينظر الجميع بمستوى صدره، وعندما يجلس يرون الصمت، ولا يمزق توتر الجدران إلا صوته المجلجل .صامت يستمع بأناة حينما يحتاج الأمر، ولا يكاد يتوقف عن الحديث أمام الجمهور المستزيد إلا والحشد غير المؤتلف قد تقارب وتقارب رأيا وقناعة. لم يملوا من حفر القنوات الجانبية في طريق جريانه، وحين انطلاق لسانه، لكنه يبصر حينما تعلو الغشاوة أعين الآخرين، ويتحرك حينما يتراجع الآخرون، لا يكل لكنه لأحوال الناس يتألم، وهل من صاحب رأي لا يتألم.
يستل قلمه من غمده، ويمزق فراغ السحاب فينثر أنجما على ورق البردي وفي وجوه الحاضرين، يكتب ثم يكتب ثم يعود فيشطب، يغير كلمة هنا وجملة هناك، ثم يضيف ويتراجع ثم يقدم، يُسقط فقرة كاملة، ويضيف كلمة، يمُزق صفحة ويكتب ثلاث، يسأل نفسه وقد يستشير عن أنسب المواضع لكلمة . انه إنسان الكلمة، والكلمة في زمن التحدي طلقة بل طلقات، والكلمة في زمن التردي ترياق وبلسم، والكلمة في زمن الترقب استنهاض واعلام بالصبر، وهو في طوفان كلماته يجيد العوم، لا يتعب ولا يتذمر.
ينهل من معين اللغة العربية الذي لا ينضب، نهر في الحديث هو لا يتوقف عن الجريان، نبع إيمان، وهل في صاحب الرسالة إلا الإيمان والإرادة ،الإرادة والفعل، الكلمة والنتيجة، الخطة والهدف، كلمة الحق في مسار البرق.
دخل المكتب مسرعا، حتى وهو الآن يودع الستين من عمره مازال مسرعا، يمشي مسرعا، يفكر بسرعة، يخطط بسرعة، وكأنه يسابق شيئا أو يراكم أشياء أو يزرع وينتظر الثمار، دخل إلى المكتب الذي كنت أشغله مسرعا، سلم على الحضور، وبعد أن جلس قال لي : (يا بو) ! أي يا أبو- ويتوقف عن التتمة كي لا يتوه بين أسماء الأشخاص الذين يعرفهم وما أكثرهم –ما نوع الحضور في ندوتي غدا؟ لقد كان يمارس الكلام طقسا مقدسا، كعلم وفن وكأسلوب تعبئة، ويتعامل مع الحضور كبؤرة استقطاب، وكمجال تعلم وتعليم . قلت له: إنهم صفوة ونخبة. فلم تعجبه الكلمتان وقال إننا تنظيم طليعي وجماهيري معا بمعنى أننا لا نعترف بالتمايز بين أفراد الشعب فلكل قدرة ولكل طاقة، ومن كل حسبهما يتحقق العطاء، لقد كان معلما وما زال لا يترك مجلسا أو اجتماعا أو حتى لقاء فرديا إلا وينهل من كوكب معرفته ليسقي الآخرين إلى حد الارتواء.
لو كان صاحب طريقة صوفية لكثر مريدوه، ولو كان صاحب زاوية لتزاحم على بابه طلاب العلم، ولو قبل أن يكون وزيرا لكانوا حوله كما الفراشات، ولكنه مناضل حمل بندقية وقلما، وثائر في ثوب مفكر أو مفكر في ثوب ثائر يحمل هما وقلما وألما وارتحالا وبلاغة.
احتفظ بمهابة ارتبطت بطوله وعرضه كما ارتبطت بتقاطيع وجهه، وحمل أنفة وكبرياء من والده ذاك الشيخ الحيفاوي الجليل الذي أورثه إيمان العلماء وجموح الحصان ودهاء الثعلب وشموخ العقاب، واكتسب حب المعرفة وارادة العطاء وإصرار القندس، وخدمة الأمة، وهل لغير ذلك يعيش أصحاب الأفكار الثورية الحرة.
دخل القاعة التي غصت بالحضور، فدوى الجمع بالتصفيق، وتكبر الأمة حينما تصفق لعلمائها، مفكريها، شعرائها، ثوارها، قادتها، وتنحدر حتى تداس بالأقدام فلا يظهر لها لون حينما تصفق لصنائع الآخرين، ودمى الأمم الأخرى ورسومها المتحركة. حينما نصفق لمفكرينا وأدبائنا وأساتذتنا ننتصر لأنفسنا ضد الاستلاب، وننتصر لأمتنا ضد حملة رايات التغريب، وننتصر لقدراتنا الذاتية التي يحطمونها فينا. جلس على المنصة، فلقد كان مدعوا لإلقاء محاضرة أعد لها الاتحاد العام لطلبة فلسطين –فرع الكويت الذي كنت أرأسه، قدمته! وكيف لي أن أقدم حوتا في بحر لجج، أو إشراقة بعد ليل حالك، أو إنصافا بعد طول طغيان، أو مطرا لأرض منتظرة صابرة. إنه يعلن عن نفسه.
لقد تكلم فأسمع، وتحدث فأسر، وخطب فملك، وقال فضرب أعناق الرفض والتمرد، دفن الكائدون في حبال مصائدهم، وركل الواهمون في دبر أحلامهم . كنت قد قدمته كقائد ومفكر عروبي ومنظر من قلائل الذين دخلوا الثورة كبارا وظلوا كذلك، وما بصعوبة على الصغير أن يكبر ولكن العرقلة حين يصغر الكبار ! وهو دخل كبيرا واحتفظ بذلك، لأنه كما ظل يردد المرء بإخوانه، لقد كان كبيرا بحب واحترام الآخرين له، وحبه واحترامه للآخرين.
كان يتحدث وكأنه طوفان، لا ينقطع ولا ينفع معه ربوة أو جبل، تتزاحم فيه الأفكار عند عتبة جمُلِه، تتصارع تتوالد تتراكض ثم تهبط من عنق عقلها إلى شفتيه بسلاسة الارتواء، وطلاقة الطيور، وبلاغة الفصحاء، حتى لتكاد ترى في عيون الحضور تأملا في ذاته ونظرة فيما وراء كلماته، ومقارنة بين حركات يديه وربطة عنقه، وتقلبات وجهه، ورنة صوته، وربطا بأفكاره الثرة المتدافعة المتسارعة. وما أن أدركه الوقت، وهو فيه من الملتزمين حتى توقف، فوقف له الجمهور يحييه ختاما كما حياه عند البدء، ولم يتسنَ لي اختتام ما اختتُم بوقوفه، ثم انطلاقه مسرعا باتجاه المطار حيث ينتظره مؤتمر عالمي في فرنسا.
عاش الثورة تأسيسا ومسيرة ،مفاصل ومراحل، إجمالا وتفصيلا، لقد كان نهما للتفاصيل والأسرار والمعرفة والتقدم والجديد، لا يشبع من الاستزادة، يسأل، يستفسر، يقرأ كثيرا، يدون، يسجل، يرتحل ليسأل ويستفسر ويقرأ ويدون ويسجل ثم يتحدث، وكيف لمثله ألا يأتي بجديد، انه صاحب فكرة وصاحب رؤيا وصاحب ياسر عرفات، وفي غمام الصيف وغيوم الشتاء وفي ظل العواصف والأعاصير تغيب الرؤية، ويندفع هو مسرعا في مسار البرق ليقدم رؤياه دون اعتبار لعوامل التعرية أو التجوية، بثقة المجاهد و تواضع العلماء.
اكتسب من الهندسة علمية الفكرة، واكتسب من الثورة حركية الفكرة واكتسب من إيمانه ضرورة الفكرة وورث من والده أهمية الفكرة، واكتسب من الناس هادفية الفكرة، وأحدث فيه الزمن وسطية الشعلة، فصنع فكرا وخط في لوح الديمومة مسارا ما كان لمثله إلا أن يخطه.
في مكتبه بمدينة غزة بعد عشرين عاما من لقائي الأول به، كنت في محراب علم، وكادرا في حضرة قائد، فما كان لاختلاف الأمكنة وتغير الدهر وتراجع المراحل، وكثرة الفواصل، وعاديات الزمن إلا أن تزيد من حنكته، وبراعته وسرعته، انه الرجل الطوفان المسرع في مسار البرق يلتقط الشهب، ويرسم الطريق، يفكر مليا وعندما يواجه لا يتوقف.
غاب الحبيب ولكن شمسه لا تغيب، وسقط الشهيد ولكن سعيه خالد، ورحل المفكر العروبي الاسلامي وعلمه فينا ثابت، وترجل الثائر في 6/7/2012 بعد رحلة نضالية طويلة ولكن أثره لا يزول. الى رحمة الله وجناته ووجدت ان للرجل أفضالا جعلتني أضمن هذه المقدمة ما كتبته عنه قبل سنوات في النص المرفق.
عندما يدخل مكانا أو جمعا أو فكرا يثير من حوله زوبعة، وعندما يتوقف ينظر الجميع بمستوى صدره، وعندما يجلس يرون الصمت، ولا يمزق توتر الجدران إلا صوته المجلجل .صامت يستمع بأناة حينما يحتاج الأمر، ولا يكاد يتوقف عن الحديث أمام الجمهور المستزيد إلا والحشد غير المؤتلف قد تقارب وتقارب رأيا وقناعة. لم يملوا من حفر القنوات الجانبية في طريق جريانه، وحين انطلاق لسانه، لكنه يبصر حينما تعلو الغشاوة أعين الآخرين، ويتحرك حينما يتراجع الآخرون، لا يكل لكنه لأحوال الناس يتألم، وهل من صاحب رأي لا يتألم.
يستل قلمه من غمده، ويمزق فراغ السحاب فينثر أنجما على ورق البردي وفي وجوه الحاضرين، يكتب ثم يكتب ثم يعود فيشطب، يغير كلمة هنا وجملة هناك، ثم يضيف ويتراجع ثم يقدم، يُسقط فقرة كاملة، ويضيف كلمة، يمُزق صفحة ويكتب ثلاث، يسأل نفسه وقد يستشير عن أنسب المواضع لكلمة . انه إنسان الكلمة، والكلمة في زمن التحدي طلقة بل طلقات، والكلمة في زمن التردي ترياق وبلسم، والكلمة في زمن الترقب استنهاض واعلام بالصبر، وهو في طوفان كلماته يجيد العوم، لا يتعب ولا يتذمر.
ينهل من معين اللغة العربية الذي لا ينضب، نهر في الحديث هو لا يتوقف عن الجريان، نبع إيمان، وهل في صاحب الرسالة إلا الإيمان والإرادة ،الإرادة والفعل، الكلمة والنتيجة، الخطة والهدف، كلمة الحق في مسار البرق.
دخل المكتب مسرعا، حتى وهو الآن يودع الستين من عمره مازال مسرعا، يمشي مسرعا، يفكر بسرعة، يخطط بسرعة، وكأنه يسابق شيئا أو يراكم أشياء أو يزرع وينتظر الثمار، دخل إلى المكتب الذي كنت أشغله مسرعا، سلم على الحضور، وبعد أن جلس قال لي : (يا بو) ! أي يا أبو- ويتوقف عن التتمة كي لا يتوه بين أسماء الأشخاص الذين يعرفهم وما أكثرهم –ما نوع الحضور في ندوتي غدا؟ لقد كان يمارس الكلام طقسا مقدسا، كعلم وفن وكأسلوب تعبئة، ويتعامل مع الحضور كبؤرة استقطاب، وكمجال تعلم وتعليم . قلت له: إنهم صفوة ونخبة. فلم تعجبه الكلمتان وقال إننا تنظيم طليعي وجماهيري معا بمعنى أننا لا نعترف بالتمايز بين أفراد الشعب فلكل قدرة ولكل طاقة، ومن كل حسبهما يتحقق العطاء، لقد كان معلما وما زال لا يترك مجلسا أو اجتماعا أو حتى لقاء فرديا إلا وينهل من كوكب معرفته ليسقي الآخرين إلى حد الارتواء.
لو كان صاحب طريقة صوفية لكثر مريدوه، ولو كان صاحب زاوية لتزاحم على بابه طلاب العلم، ولو قبل أن يكون وزيرا لكانوا حوله كما الفراشات، ولكنه مناضل حمل بندقية وقلما، وثائر في ثوب مفكر أو مفكر في ثوب ثائر يحمل هما وقلما وألما وارتحالا وبلاغة.
احتفظ بمهابة ارتبطت بطوله وعرضه كما ارتبطت بتقاطيع وجهه، وحمل أنفة وكبرياء من والده ذاك الشيخ الحيفاوي الجليل الذي أورثه إيمان العلماء وجموح الحصان ودهاء الثعلب وشموخ العقاب، واكتسب حب المعرفة وارادة العطاء وإصرار القندس، وخدمة الأمة، وهل لغير ذلك يعيش أصحاب الأفكار الثورية الحرة.
دخل القاعة التي غصت بالحضور، فدوى الجمع بالتصفيق، وتكبر الأمة حينما تصفق لعلمائها، مفكريها، شعرائها، ثوارها، قادتها، وتنحدر حتى تداس بالأقدام فلا يظهر لها لون حينما تصفق لصنائع الآخرين، ودمى الأمم الأخرى ورسومها المتحركة. حينما نصفق لمفكرينا وأدبائنا وأساتذتنا ننتصر لأنفسنا ضد الاستلاب، وننتصر لأمتنا ضد حملة رايات التغريب، وننتصر لقدراتنا الذاتية التي يحطمونها فينا. جلس على المنصة، فلقد كان مدعوا لإلقاء محاضرة أعد لها الاتحاد العام لطلبة فلسطين –فرع الكويت الذي كنت أرأسه، قدمته! وكيف لي أن أقدم حوتا في بحر لجج، أو إشراقة بعد ليل حالك، أو إنصافا بعد طول طغيان، أو مطرا لأرض منتظرة صابرة. إنه يعلن عن نفسه.
لقد تكلم فأسمع، وتحدث فأسر، وخطب فملك، وقال فضرب أعناق الرفض والتمرد، دفن الكائدون في حبال مصائدهم، وركل الواهمون في دبر أحلامهم . كنت قد قدمته كقائد ومفكر عروبي ومنظر من قلائل الذين دخلوا الثورة كبارا وظلوا كذلك، وما بصعوبة على الصغير أن يكبر ولكن العرقلة حين يصغر الكبار ! وهو دخل كبيرا واحتفظ بذلك، لأنه كما ظل يردد المرء بإخوانه، لقد كان كبيرا بحب واحترام الآخرين له، وحبه واحترامه للآخرين.
كان يتحدث وكأنه طوفان، لا ينقطع ولا ينفع معه ربوة أو جبل، تتزاحم فيه الأفكار عند عتبة جمُلِه، تتصارع تتوالد تتراكض ثم تهبط من عنق عقلها إلى شفتيه بسلاسة الارتواء، وطلاقة الطيور، وبلاغة الفصحاء، حتى لتكاد ترى في عيون الحضور تأملا في ذاته ونظرة فيما وراء كلماته، ومقارنة بين حركات يديه وربطة عنقه، وتقلبات وجهه، ورنة صوته، وربطا بأفكاره الثرة المتدافعة المتسارعة. وما أن أدركه الوقت، وهو فيه من الملتزمين حتى توقف، فوقف له الجمهور يحييه ختاما كما حياه عند البدء، ولم يتسنَ لي اختتام ما اختتُم بوقوفه، ثم انطلاقه مسرعا باتجاه المطار حيث ينتظره مؤتمر عالمي في فرنسا.
عاش الثورة تأسيسا ومسيرة ،مفاصل ومراحل، إجمالا وتفصيلا، لقد كان نهما للتفاصيل والأسرار والمعرفة والتقدم والجديد، لا يشبع من الاستزادة، يسأل، يستفسر، يقرأ كثيرا، يدون، يسجل، يرتحل ليسأل ويستفسر ويقرأ ويدون ويسجل ثم يتحدث، وكيف لمثله ألا يأتي بجديد، انه صاحب فكرة وصاحب رؤيا وصاحب ياسر عرفات، وفي غمام الصيف وغيوم الشتاء وفي ظل العواصف والأعاصير تغيب الرؤية، ويندفع هو مسرعا في مسار البرق ليقدم رؤياه دون اعتبار لعوامل التعرية أو التجوية، بثقة المجاهد و تواضع العلماء.
اكتسب من الهندسة علمية الفكرة، واكتسب من الثورة حركية الفكرة واكتسب من إيمانه ضرورة الفكرة وورث من والده أهمية الفكرة، واكتسب من الناس هادفية الفكرة، وأحدث فيه الزمن وسطية الشعلة، فصنع فكرا وخط في لوح الديمومة مسارا ما كان لمثله إلا أن يخطه.
في مكتبه بمدينة غزة بعد عشرين عاما من لقائي الأول به، كنت في محراب علم، وكادرا في حضرة قائد، فما كان لاختلاف الأمكنة وتغير الدهر وتراجع المراحل، وكثرة الفواصل، وعاديات الزمن إلا أن تزيد من حنكته، وبراعته وسرعته، انه الرجل الطوفان المسرع في مسار البرق يلتقط الشهب، ويرسم الطريق، يفكر مليا وعندما يواجه لا يتوقف.