أول الليل وآخره- فؤاد ابو حجلة
كانت ليلة صعبة بدأت بالضجيج في المطعم وانتهت بالضحك الذي يكسر سكون الليل على رصيف معتم في قاع المدينة.
الأصدقاء الذين تحرروا من الوظيفة اكتشفوا تقييدهم بوظائف بديلة غير مدفوعة الأجر، وتبين لهم أنهم يمولون بطالتهم وينفقون عليها مما لا يملكون أصلا.. أنا بالطبع واحد من هؤلاء، لذا أحب الليل أكثر من النهار لأن كلفته أقل.
النهار للبيت والسوق والدوائر الرسمية المكلفة بإضاعة عمر المواطن في انجاز المعاملات الرسمية التافهة، كتبديل الهوية التالفة وترخيص السيارة القديمة ودفع فواتير الكهرباء والماء. والنهار أيضا للتوتر وحرق الأعصاب في التعامل مع موظفين أغبياء وفي مزاحمة سيارات المصطافين الكبيرة في شوارع ضيقة تبدأ فيها مشاريع التوسيع ولا تكتمل.
الليل لي وللهاربين من إعياء النهار ونجومه التافهين. والليل يبدأ وينتهي بنا، وقد تعلمنا كيف نحشو ساعات الليل في المطاعم والمقاهي. وتعلمنا كيف نضحك على من يعتبروننا متقاعدين ونسخر من بطالتهم المقززة في وظائفهم الوهمية، حيث يعمل الطبيب ولا يداوي، ويعمل المهندس ولا يبني، ويعمل المحامي ولا ينصف صاحب حق، ويعمل المعلم ولا يعلم، ويعمل الصحفي ولا يكتب (تأتيه المواد مكتوبة).
على الأقل رغيف المطعم حقيقي يحمل رائحة الخبز، وشاي المقهى أسود كليل المدينة، والنادل لا يبتسم ببلاهة لمدير منفوخ بهواء الحكومة
الليل لنا بلا ربطات عنق ولا بطاقات تعريف تحمل ألقابا مضحكة ولا مجاملات كاذبة مدفوعة بضرورة الانخراط في لعبة النفاق الوطني الشامل. إنه ليل للساهرين في أوله ضجيج لا يوقظ النائمين على ريش وهم الوظيفة وفي آخره حنين الى من رحلوا قبل الأوان.. هربوا من الوهم الى الحقيقة، وماتوا.
أنا كائن ليلي، احب العتمة المبررة، ولا أعترض على اعتباري رسميا من «خفافيش الظلام»، ولا رغبة لي إطلاقا في الالتحاق بجموع «ضباع النهار».
ميزة الليل أنه وقت ساكن نكون فيه أحياء، بينما النهار وقت حي خصصته الحكومات لرعاياها الأموات الذين تسميهم «مواطنين صالحين».
في آخر الليل أنام.. لأهرب من النهار.