الجريدة والعقاب (2)- حوار في مقهى كوينزواي- فؤاد ابو حجلة
في شارع كوينزواي في وسط لندن كان يجمعنا مقهى صغير يقدم القهوة العربية والشاي الثقيل وبعض الحلويات الشامية.
كان الصحفيون العرب العاملون في لندن في أواخر السبعينيات يعتبرون هذا المقهى منتدى ونادياً ومقراً للسهر والحوار. وكذلك كان السياسيون العرب المقيمون في لندن والزائرون لها يرتادون هذا المقهى بحثا عن ضوء الاعلام.
في صيف 1978 كان المقهى يعج بالشخصيات العربية الزائرة، ما وفر للصحفيين فرصة نادرة لإجراء حوارات سياسية وثقافية مع العديد من صانعي القرار في عواصمهم. وكنت ممن استفادوا من الفرصة والتقيت هناك مع مسؤول سوري رفيع كان في زيارة خاصة الى لندن، علمت فيما بعد أنها زيارة بزنس، حيث إن المسؤول الذي لم يكن جسده رفيعا كان يؤسس «مصلحة» في بريطانيا تضمن له حق الاقامة في البلاد عندما تقرر حكومته إقالته، وهو ما حدث بالفعل، ويبدو أنني ساهمت، دون أن أدري، في تسريع الوصول الى هذه النتيجة.
حاورت المسؤول، ولم اسجل شيئا من الحوار ولم اكتب كلمة واحدة، معتمدا على ذاكرتي التي كانت نشطة في شباب العمر. لكن كلام الليل يمحوه النهار، وقد اكتشفت في صباح اليوم التالي أنني لا أذكر حرفا واحدا مما قاله المسؤول صاحب المنصب الرفيع والجسد الغليظ.
أحرجني الموقف. ولأنني كنت أعرف أن المسؤول إياه يتوقع نشر الحوار في جريدة «العرب»، فقد بادرت إلى تأليف حوار جديد، نسبت فيه الى المسؤول كل ما لم يقل وكل ما لا يستطيع أن يقول وبعض ما لا يريد قوله، وخاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وموقف النظم العربية من النضال الوطني الفلسطيني، واغلاق الجبهات العربية ومنع المقاتلين الفلسطينيين من عبورها.. وما الى ذلك من تجليات المشهد العربي الذي تميز بسخف المفارقة بين القول والفعل.. ونشرت الحوار.
في اليوم الذي يليه لم أذهب الى مقهى كوينزواي، فقد أحسست أنني ورطت الرجل ولم أرد مواجهته خشية الاشتباك في معركة كلامية قد تمتد حتى الفجر.. وانتظرت لقاء بالصدفة يحدث بعد مرور ما يكفي من الوقت لتبريد الأعصاب وتبديد الغضب.
لم يحدث اللقاء، لكنني تلقيت مكالمة هاتفية مختصرة من المسؤول الرفيع قال لي فيها ما نصه: الله لا يوفقك.
لم يستجب الله لدعائه، ووفقني عز وجل في احراج مسؤولين آخرين في مناسبات أخرى. لكن حكومة المسؤول الرفيع استجابت لغضبها بسبب ما جاء في الحوار المنشور وأقالته ليتفرغ لـ «المصلحة» في بريطانيا.. وليشكرني بعد استقراره هناك.