نابليون.. النسخة العربية- فؤاد ابو حجلة
في عمان القديمة، وتحديدا في محيط المسجد الحسيني في وسط البلد، التقيت نابليون. كان بكامل اناقته وقيافته وطلاقة لسانه العربي، ولم يختلف عن توأمه الفرنسي الا في اللغة والشوارب الكثة التي غطت جزءا كبيرا من وجهه الدقيق التقاطيع.
كان ذلك في أوائل التسعينيات حين كانت المدينة أقل ازدحاما وأكثر هدوءا وطمأنينة. وكان نابليون العربي يعتبر عمان فرنسا الخاصة التي يحدها من الغرب شارع وادي السير ومن الشرق شارع الزرقاء ومن الشمال كراجات العبدلي ومن الجنوب طلوع المصدار، وكان يعتبر السيل الذي سقفوه نهر السين، أما برج ايفل فقد وجده نابليوننا في برج ارسال تابع لشركة الاتصالات.
يمشي نابليون في باريسه لافتا أنظار المارة من أهل المدينة وزوارها القادمين من المحافظات ومن خارج البلاد، ولا يتحرش به أحد باعتباره معلما من معالم عمان وكائنا حساسا ينبغي حمايته من خدش الشعور.
في العام 1992 خاض نابليون عمان معركة كبيرة ضد موظفي أمانة عمان الكبرى الذين استعانوا بالشرطة لمنعه من التجوال في سوق المدينة مرددا شعارات غريبة على مسامع موظفين لا يتجاوز وعيهم وثقافتهم حدود مراقبة التزام الدكاكين باستصدار تراخيص مزاولة المهنة.. وقد خرج نابليون من هذه الـ «واترلو» منتصرا، وظل يجوب شوارع وسط المدينة ببدلته الصوفية السوداء التي كان يرتديها صيفا وشتاء وقبعته الملفتة التي لم تفارق رأسه الذي لم ينحن لأحد.
أمس سألت عن نابليون، وأخبرني صاحب مقهى السنترال في المدينة أنه مات. صدمني خبر رحيله، لكنه كشف لي سر موت الصوت في المدينة.
غاب صوت نابليون وساد في وسط المدينة ضجيج السوق ونداءات البائعين والمهربين وملاسنات سائقي سيارات الأجرة.
وغابت روح نابليون وحلت مكانها ارواح خانعة لا تعرف التمرد، وتعتقد بإمكانية اختصار الحياة في وظيفة حكومية تجعل صاحبها عاطلا عن العمل.
قصص كثيرة تداولها الناس عن نابليون. منهم من قال إنه كان جاسوسا للموساد مزروعا في المدينة، ومنهم من اعتبره مجنونا فقد عقله بسبب خيانة امرأة تورط في حبها، ومنهم من ظن أنه مجرد انسان كسول لا يحب أن يعمل ويستمرئ العيش على حساب الآخرين.
ما أعرفه عن نابليون غير ذلك، فقد كان الرجل مثقفا وقارئا نهما، ومن أصحاب التجربة النضالية، ويبدو أنه كان ثوريا رومانسيا فلم يحتمل هزيمة العرب في حرب حزيران.. وقرر العيش بطريقة مختلفة عن الآخرين الذين لم يصنعوا نصرا واحترفوا الهزيمة.
عاش نابليون العربي في عالمه الخاص.. ورحل بهدوء، دون أن يصدر بيانا يحول هزيمته الى انتصار تاريخي.
في أزقة المدينة وشوارعها القديمة ربما يسير الآن رومل ومونتغمري ولينين وتروتسكي، لكن الذي أراه في سوق السكر هو في الواقع.. شوارزكوف. لذا لم أعد مغرما بالتسكع في قاع المدينة.