هاني الحسن معلما- تحسين يقين
أمران تميّز بهما: الحديث الفكري عن القضية الوطنية، والحديث النقدي؛ والسامع كان يجد الحديث حيويا، بما يثيره من أفكار ومعلومات، وما ينقده وطنيا رغم انتمائه السياسي.
أول الدروس وأهمها هو التفكير، ولعل إثبات الذات المفكّرة لا تقل أهمية عن أي إثبات لذوات أخرى. وهنيئا لمن عاش قريبا منه في مجالات العمل الوطني، حيث تعلم منه الكثير، وعرف أن فكره العميق هو من جعله رجل المهمات الصعبة.في الندوات القليلة التي حضرتها مستمعا للأستاذ هاني، كان يدهشني كيف يتحدث كأنه يكتب، بعيدا عن الإنشاء الجاهز، في كل فقرة من كلامه أفكار: يطرح معلومات ثم يحللها، سياسيا واستراتيجيا، ناقدا الأسلوب السياسي في التعاطي مع الموضوع، ينظر في أعين الحضور ليشاركهم الفكر لا ليملي عليهم، وبشجاعة وجدية يتحدث ويستمع وينتقد، ثم ترى ابتسامته الجميلة على وجهه تنبئنا كم هو واسع الصدر.
للمهندس فيه ما يذكرني بما نطق به أفلاطون: "من لم يكن مهندسا فلا يدخل علينا"، قاصدا مجلس الفلسفة، وكثيرا ما فكرت في كلام أفلاطون واحترت لماذا اختار المهندس، حتى التقيت بهاني الحسن متحدثا فكريا، مرتبا أفكاره، وفق منطق فكري، وتلك هي الفلسفة السياسية القادمة من العلم والمعرفة والخبرة، فأهم ما كان يملكه الرفيق الحسن هو عقله، لقد انحاز للعقل فانحاز إليه العقل، وبه سيطول الراحل بيننا، ومحظوظ هو من يواري التراب جسده، فيواري عقله التراب خالدا، كما يستحق أن يخلد إنسان مثله نذر نفسه للوطن مع رفاق وأخوة رائعين، منهم من ترجل ومنهم من بقي يسعى وراء الحلم.
الرفيق وهو الأخ الفتحاوي!
هو رفيق نبيل مفكّر، يملك ما يملك روح اليساري من حيوية وجدل وطيبة وزهد، واليسار من هذا المنطلق روح فكرية غير مقتصرة على أيديولوجية عمرها قرن أو يزيد. وبهذه الرفقة استطاع أن يتعامل مع الأفراد والجماعات والدول، حيث نال احترام الجميع.
النقد البناء، هو ثاني الدروس، حتى وإن قسا في نقده أحيانا، حتى يظن سامعه أنه معارض أو من تيار أو فصيل آخر، وليس كل ناقد يستطيع أن يكون مثله؛ فهو ينقد وطنيا، كما يتحدث وطنيا، باعتبار أن الوطن أكبر من الفصائل، وهو يجتهد فكره، رغم وجود حساسيات سياسية، ولا يملك فعل ذلك إلا الشجاع، وهو درس ثالث للأستاذ والمهندس هاني الحسن.
الاشتباك مع الفكر والسياسة لا يعني الزهد في العمل الثوري، وهذا لعله الدرس الرابع، ولا أملك تقييم فترة اضطلاعه بملف التعبئة والتنظيم. المهم في الأمر هو أنه أثر بكوادر ميدانية في الأقاليم الفتحاوية داخل الوطن، وقد لمست ذلك من خلال تلاميذه العاملين في الأقاليم، أولئك الشباب الذين أحبوه، والذين كبروا به، وتأثروا بأسلوبه المميز، وهو أقرب إلى التعامل بندية أكثر منها تعليمات، ولهم أكيد شهادات فكرية معه وعنه.
أما الدرس الخامس، فهو قدومه إلى الوطن، ليواصل نضاله الوطني، ونضاله السياسي والفكري من الداخل وليس من العواصم؛ فبمجيء هاني الحسن هنا أعطى العمل الثورة تشجيعا، كنا بحاجة إليه، وأعطى العمل الوطني من خلال الفصائل حيوية، لما له من مصداقية، وكونه يلتقي مع الوطنيين جميعا، وكونهم أيضا أحبوه. فمن المهم لنا جميعا كتلاميذ ودماء جديدة في العمل الاجتماعي والوطني والنضالي والثقافي أن نعرف أين نضع خطواتنا، فقد نختلف في الطريق لكن لا نختلف عليها.
الدرس السادس درس مرتبط بما سبق، وهو الديمقراطية، واحترام الآخرين، وأظن أن قدومه إلى الوطن دلالة إيمانه بالديمقراطية في العمل الثوري، حتى ولو كانت الديمقراطية نسبية. فأن نعي هذه النقطة جيدا، تساعدنا في البقاء معا، مع اختلافاتنا التي لا تنتهي، لا التفرق هنا أو هناك.
إثبات الذات اللاجئة القادمة من فلسطين إلى العالم، فلم يكن عمره سوى 10 أعوام حين صار طفلا لاجئا، فحمل الوطن الكبير في قلبه الصغير فصار به قلبا كبيرا، وهل أهم من هذا الدرس السابع؟ كيف استطاع إثبات نفسه كفتى وشابا طالبا علميا وناشطا ومؤسسا لاتحاد طلبة فلسطين فرع ألمانيا؟ هي أثبات للذات الفردية والوطنية معا، وهي إثبات للذات المفكرة والمثقفة التي جذبت زملاءه هناك بعيدا عن الوطن بآلاف الكيلومترات..
انتمى الراحل لجيل من الشباب المؤسسين للعمل الوطني، جيل عظيم من الفدائيين الذي حملوا راية النضال، في فترات لم تكن الأرض مفروشة بالزهور ولا بالأشواك، بل الألغام، حتى استطاعوا توريثنا الهوية الفلسطينية لنحافظ عليها، جيل أجتهد فأصاب واجتهد وأخطأ، لكنه استمر يسعى وراء البوصلة نحو القدس.
جيل أستاذ، في حركة فتح والفصائل الوطنية، ناضلوا بالبندقية والكلمة، هذا كان اجتهادهم، وتلك كانت ظروف العمل الوطني في بداية الستينيات، فكان أن تم توظيف القومي للوطني، وقد اشتبكوا في ذلك كثيرا مع الذات الوطنية والقطرية، وصولا إلى الحكمة والعقلانية بدون التفريط في الثوابت، لذلك كان الجيل محترما لدى الأشقاء وإن حدث الخلافات، لسبب بسيط هو أن بوصلة الجيل الثوري كانت القدس فعلا..والمرحوم أبو طارق كان من طليعة هذه القيادة، ولعل الذين شهدوا المرحلة اللبنانية، يستطيعون الشهادة على أداء رجل المهمات الصعبة كيف كان يؤدي الدور الوطني المسؤول.
كان فتحاويا كبيرا، لكنه كان وطنيا بامتياز...وكان قوميا كبيرا لا ينسى أو يتناسى البعد القومي في الصراع، ولعله درس ثامن لنا أن لا ننسى البعد القومي في العملية السياسية، فهي حرب تحتاج للأشقاء والأصدقاء ربما أكثر من الحرب العادية.
هذه دروس وغيرها تعلمناها منه عن بعد، فحينما تمنينا الاقتراب منه، كان منشغلا بقضيته، فقلنا لنتعلم عن بعد، وليسعد التلاميذ الذين كانوا يلتقونه عن قرب..
الفكر الوطني والنقد؛ كانا ذلك يتم باحترام، فاحترمه الرفاق والأخوة، لم يكن الخلاف مصلحة فردية عليا، بل كان الخلاف على الوطن، لربما أصاب كثيرا، ولربما كان يجتهد ويخطئ، لكنه في كل ذلك كان عظيما عند شعبه وفي التاريخ، لذلك لم يجد أحد أن يفعل معه غير الاحترام والتقدير على علو المنزلة..
إنه الأستاذ الذي لا يملي على التلاميذ، بقدر ما كان يطمئن على الفهم..وهذا درس تربوي وفكري، شهد به الأخوة الذين تكررت لقاءاتهم به بحكم الحالة التنظيمية. وبسبب قدراته الفكرية كان قادرا على اكتشاف القيادات الشابة والتي كان يقدر لها وفيها الاختلاف في الرأي.
برحيله سنفتقد إنسانا وقائدا ثوريا اعتاد على إنتاج المعرفة وصياغة الفكر السياسي لا الخطاب المكرر والمعاد بصبغته الإنشائية. وسنفتقد قائدا كان يعمق آمالنا بحقوقنا، وهو المتمسك بثوابت مشروعنا الوطني. لقد كان الراحل يقوينا بمنحنا الأمل ويشعرنا بأننا أقوياء، وهذه أهم سمة القائد.
في سيرة هاني الحسن الشخصية كل ما هو وطني!
وهذا هو الدرس العظيم..
رحمه الله في عليين مع الشهداء والصالحين..
Ytahseen20012yahoo.com