في “كوفنت جاردن”- فؤاد ابو حجلة
الزمن لا يعود إلى الوراء، ومن يحاول اعادة انتاج اللحظة المتوهجة في الذاكرة، يعرف كم هو مستحيل نفخ الروح في ما فات ومات من زمن الحب والتمرد.
وقفت على باب محطة “كوفنت جاردن” في لندن بانتظار مجيء الصديقين علي الصالح وعبد اللطيف جابر. كنت هاتفت عليا في الصباح، واتفقنا على اللقاء في هذا الحي اللندني المكتظ بالسياح والمتسوقين.
مرت دقائق الانتظار بطيئة وقلقة ومتوترة، فلم أكن متأكدا من قدرتي على التعرف على صديقي بين هذه الحشود من البشر، ولم أكن واثقا من قدرتهما على التعرف علي وكبرت اثنتين وثلاثين سنة من فراق نسميه لقاء أخيرا.
كانا يمشيان باتجاهي، وكلما اقتربا مني بديا وكأنهما يخرجان من شريط الذاكرة المغبشة الى فضاء العين محملين بالأشواق والحنين.. والكهولة الطاعنة في الغربة.
تعانقنا وبكينا على رصيف لم يحفظ خطانا قبل عمر من الغربة، ومشينا الى مقهى قريب.
في الطريق كان علي يتهكم على قصر قامتي وعلى انكشاف رأسي بفعل عوامل التعرية التي أطاحت بشعري، وكان عبد اللطيف يتقدم نحو المقهى بخطى ثابتة وكأنه يقود مجموعة مقاتلة في مهمة اختراق في حرب تحرير “شويكة”. أما انا فواصلت بكائي الداخلي، وانا استذكر ما مضى من شباب وفتوة.
عندما وصلنا المقهى كنت منهكا من المشي وكان الوجع يصعد إلى رأسي من قدمي اليسرى، لكن علي وعبد اللطيف لم يتعبا ولم يلهثا رغم امتلاكهما كرشين معتبرين يصلحان للمشاركة في جاهة عشائرية. قال علي إنها السجائر اللعينة ووافقه عبد اللطيف، فبدا الأمر وكأنهما يتحالفان ضد مزاجي ويسعيان لشطب آخر مشاهد التذكير بحواراتنا في الغرف المغلقة “العاجقة” بدخان السجائر في مرحلة النهوض والانتشار الفلسطيني في اوروبا في سبعينيات القرن الماضي.
كانت لندن مقرا ثم صارت مستقرا عندما فشل مشروعنا، واكتشفنا كم هو صعب بل مستحيل تغيير قناعات الجموع بجدوى الخنوع للرجعيات العربية.
علي وعبد اللطيف تغيرا، وكذلك أنا، فقد كبرنا كثيرا، وهرمت اجسادنا، وتبدلت قناعاتنا، واختلفت رؤيتنا للصراع وللحياة، لكن شيئا واحدا لم يتغير. إنه الحزن المقيم في القلب والحزن المتسرب من طرف العين، والحزن الساكن في الصوت عندما نحكي عن فلسطين.
في لندن، وتحت سماء ملبدة بغيوم الصيف، كان لقاؤنا الأول بعد دهر من البعد والقطيعة، وفيها استعدنا ما ظل في الذاكرة من جنون لذيذ في زمن بعيد كان أكثر دفئا وأكثر رأفة بالمتمردين.
لنا الله يا صاحبي الرائعين، فقد كبرنا ولم ننس، وهرمت اجسادنا ولم نتوقف عن المشي على أرصفة الغربة، ويبدو أننا سنمشي كثيرا ونحن نعرف أن الطريق من “كوفنت جاردن” لا تؤدي الى شويكة أو ديراستيا.
وقفت على باب محطة “كوفنت جاردن” في لندن بانتظار مجيء الصديقين علي الصالح وعبد اللطيف جابر. كنت هاتفت عليا في الصباح، واتفقنا على اللقاء في هذا الحي اللندني المكتظ بالسياح والمتسوقين.
مرت دقائق الانتظار بطيئة وقلقة ومتوترة، فلم أكن متأكدا من قدرتي على التعرف على صديقي بين هذه الحشود من البشر، ولم أكن واثقا من قدرتهما على التعرف علي وكبرت اثنتين وثلاثين سنة من فراق نسميه لقاء أخيرا.
كانا يمشيان باتجاهي، وكلما اقتربا مني بديا وكأنهما يخرجان من شريط الذاكرة المغبشة الى فضاء العين محملين بالأشواق والحنين.. والكهولة الطاعنة في الغربة.
تعانقنا وبكينا على رصيف لم يحفظ خطانا قبل عمر من الغربة، ومشينا الى مقهى قريب.
في الطريق كان علي يتهكم على قصر قامتي وعلى انكشاف رأسي بفعل عوامل التعرية التي أطاحت بشعري، وكان عبد اللطيف يتقدم نحو المقهى بخطى ثابتة وكأنه يقود مجموعة مقاتلة في مهمة اختراق في حرب تحرير “شويكة”. أما انا فواصلت بكائي الداخلي، وانا استذكر ما مضى من شباب وفتوة.
عندما وصلنا المقهى كنت منهكا من المشي وكان الوجع يصعد إلى رأسي من قدمي اليسرى، لكن علي وعبد اللطيف لم يتعبا ولم يلهثا رغم امتلاكهما كرشين معتبرين يصلحان للمشاركة في جاهة عشائرية. قال علي إنها السجائر اللعينة ووافقه عبد اللطيف، فبدا الأمر وكأنهما يتحالفان ضد مزاجي ويسعيان لشطب آخر مشاهد التذكير بحواراتنا في الغرف المغلقة “العاجقة” بدخان السجائر في مرحلة النهوض والانتشار الفلسطيني في اوروبا في سبعينيات القرن الماضي.
كانت لندن مقرا ثم صارت مستقرا عندما فشل مشروعنا، واكتشفنا كم هو صعب بل مستحيل تغيير قناعات الجموع بجدوى الخنوع للرجعيات العربية.
علي وعبد اللطيف تغيرا، وكذلك أنا، فقد كبرنا كثيرا، وهرمت اجسادنا، وتبدلت قناعاتنا، واختلفت رؤيتنا للصراع وللحياة، لكن شيئا واحدا لم يتغير. إنه الحزن المقيم في القلب والحزن المتسرب من طرف العين، والحزن الساكن في الصوت عندما نحكي عن فلسطين.
في لندن، وتحت سماء ملبدة بغيوم الصيف، كان لقاؤنا الأول بعد دهر من البعد والقطيعة، وفيها استعدنا ما ظل في الذاكرة من جنون لذيذ في زمن بعيد كان أكثر دفئا وأكثر رأفة بالمتمردين.
لنا الله يا صاحبي الرائعين، فقد كبرنا ولم ننس، وهرمت اجسادنا ولم نتوقف عن المشي على أرصفة الغربة، ويبدو أننا سنمشي كثيرا ونحن نعرف أن الطريق من “كوفنت جاردن” لا تؤدي الى شويكة أو ديراستيا.