عُوجَه وِالطَّابِقْ مَكشُوفْ..-آصف قزموز
لا أعتقد أن ثمة عاقلاً أو جاهلاً ولا أعمى أو بصيراً في عصرنا الحاضر، لا يدرك اتجاهات وتوجهات ومواصفات واشتراطات العالم الجديد المعاصر، الحامل في رحمه اليوم جنين الشرق الأوسط الجديد، الذي ما زال في رحلة المخاض، القادم على الحياة ونهايات الولادة حتى وأن تطلب الأمر ولادة قيصرية على يد أصحاب الشأن والقوة والنفوذ الفَعّالين لما يريدون ويدبرون. لكن، وعلى الرغم من فجاجة وضوح الحقائق الماثلة والجارية أمام ناظرينا بهذا الشأن، إلا أن بعض الجاهلين أو من أستمرأوا الجهالة ودفنوا رؤوسهم في الرمال ليزينوا لأنفسهم والناس مواقف خيالية حالمة ومزايدة وهم عالمون يستهبلون في إطار عمليات التخويث والتخوين السياسي التي يمتطون صهوتها وهم عارفون الحقائق ونحن الأعرف بحقيقتهم. فترى حكاماً وأنظمة وقادة أحزاب ، يجترون صباح مساء خطابات وشعارات نارية لاهبة تتنافى مع حقيقتهم ولسان حالهم الحقيقي ومسارات سياساتهم التي اختاروها، خصوصاً بعدما لبسوا رسمياً الجلباب الأمريكي الشرق أوسطي بكامل الإضافات والزينة " يعني ما شاء الله حَياكُل من جِسْمُهُم حِتَّه يا حَبِّة عِينيْ".
فالجمع بين المقاومة أوالممانعة التي يدعونها وشراكة الخصم من الباطن أو الظاهر في سبيل الكرسي المشروط أمر غير ممكن ولامتوازن، والمسألة لا تحتمل واقعياً كما أراها سوى ثلاث احتمالات، فإما أن تدخل اللعبة كلاعب، أو كخصم من خارج الملعب واللعبة، أوكمتفرج سلبي يسبح في دنيا الملكوت على أقل من مهلك. وبالتالي أمر جيد ومحمود ومشروع، أن يعود أمثال هؤلاء ويتعقلنوا من داخل الحلبة ولا بأس من أن يرعوا مصالحهم، ولكن في اطار المصلحة الوطنية العامة أولاً وليس العكس، ليصبحوا جزءً من المعادلة وشريكاً صريحاً فيها دون مواربة ، من دون دجلٍ وتضليلٍ وسوق الهَبَل عالشَّيطَنة في امتشاق الموقف وادعاء نقيضه المُزايد. "يعني بِدكُم اتْدبروا حالكُم مع الجماعة صحتين واللهم لا حَسَد، لكن مش على قفا الناس واستهبالهم".
انهم اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، أمام إلحاحية الخروج من حالة الشيزوفرينيا والنصب السياسي، والاعتراف بالحقائق والتصالح مع النفس ومع شعوبهم الذين ما زالوا يعانون الأمَرِّين بفضلهم وفضل سياساتهم وشعاراتهم البائسة وعدة نصبهم المكشوفة. وكأنما هؤلاء "غايْبين فيلِهْ"، ولم يدركوا بعد أن العالم قد تطور وتطورت معه أدواته ومقولاته واشتراطاته ومحدداته، المحمولة في وضح النهار على بساط ريح المصالح وحدها ولاشيء قبلها أوغيرها، فلاعب كرة القدم الذي كان في الماضي القريب يخادع الحكم فيلمس الكرة بيده دون أن يلحظه، لم يعد بمقدوره أن ينجح اليوم بممارسة هذا الخداع، وذلك بفضل وجود التيكنولوجيا والكاميرات الحديثة والتصوير البطئ والسريع كاشف العيوب والمخالفات، وهو ذات الأمر الذي يجري في ملعب السياسة، إذِ الكل تحت مجهر الشعوب وكاميرات مراقبة النظام العالمي والشرق أوسطي الجديد، ولم يعد هناك سوى ملعب واحد، وفحص ديناموميتر عالمي واحد يحدد المقاسات والمواصفات ومدى لياقة هؤلاء للنظام من العدم. الأمر الذي أفسد على هؤلاء الأفَّاكين والنصابين السياسيين من حَمَلة اسم الدين زوراً ورِئاء، امكانية الاستفادة من مقولة " ما أكذب من شاب اتْغَرًب إلاَّ خِتْيار ماتَت جْيالُهْ "، فحبل الكذب قصير وكَشْفُه أو اكتشافه بات متاحاً لكل مواطن. فلماذا استمرار محاولات هذا البعض سواء في مصر أو في غزة أو غيرها، خداع الناس بالشعارات والمواقف البراقة المزايدة رغم معرفة أصحابها أنها فاقدة الصلاحية والإمكانية ولا وجود لها إلا في أحلام ألِسْ في بلاد العجائب وخيالات دونكيشوت في معاركه الوهمية مع طواحين الهواء، خصوصاً بعدما حوَّلَ هؤلاء بأيديهم وأطماعهم الخاصة ظاهرة المقاومة المسلحة والممانعة التي يدعون استمرار تمسكهم بها وممارستها وهي منهم براء، إلى ظاهرة صوتية جوفاء وشماعة للمزايدة لا عِمادَ لها ولا أوتادْ. والحقيقة المرة أثبتت بالصوت والصورة أن أكثر هؤلاء تطرفاً وخطباً نارية هم الأشد تهافتاً وتنازلاً في سبيل الذات الضيقة الخاصة بهم وحدهم لا شريك لهم، وعلى حساب ومن حساب الشعب والوطن وحتى مرضاة الله التي يدّعونها وينصبون بفضلها وبها على الناس.فكفاكم ضلالة وإيهاماً للناس وتمنيتهم وتعشيمهم ببطولات وانجازات لن تفعلوها ولا أنتم قَدَّها ولا أهلٌ لها،لأن من يجلس على كرسي السلطة سيلتزم بشروطها، تماماً كغيركم وأنتم أكثر، وتعرفون ذلك حق المعرفة، وتجاربكم ناضِحَة وفاضحة تاريخياً وتشهد على ذلك.
كيف لا ونحن نتابع وضاعة المشهد بأم أعيننا ومن دون مناظير، حيث طالعنا مؤخراً الدكتور محمود الزهار أحد قادة حركة حماس من غزة، بجملة من المواقف والشعارات والمغالطات الحاملة للإفك والفتنة والبَغي وتجليات ما قد سلف من قولنا. إذ لم يستبعد الزهار إجراء مفاوضات بين حماس وإسرائيل، داعياً فتح للتخلي عن السلطة إن لم تكن قادرة على حل مشاكلها على حد تعبيره، مشيراً إلى إمكانية إجراء استفتاء شعبي حول الاعتراف بإسرائيل، ليعاود مهدداً بثورة مسلحة في وجه من يعبث بالانتخابات مع أنه وحماس يستبعدونها ويعملون ليل نهار على منعها والحيلولة دونها بأفعال تتنافى مع جل أقوالهم.
كل هذا كوم، لكن الكوم الأكبر يكمن في حديث الإفْك الذي أفصح عنه السيد الزهار، خلال مقابلته مع قناة العربية من مواقف وشعارات هوجاء لا بْتِنْزِل بْقَبَّانْ ولا بْميزانْ. فهي مساس وتعدٍ صارخ على كرامة الإنسان الفلسطيني والكرامة الوطنية عموماً، حين تطاول على أبناء شعبنا الذين هجروا من ديارهم بفعل الغزوة الصهيونية أواسط القرن المنصرم، نازعاً عنهم صفة اللجوء كلاجئين وواصفاً إياهم بالهاربين حين قال " هم الذين هربوا للخارج وأداروا معارك عشوائية في الأردن ولبنان وسوريا حتى تم طردهم من هذه الأماكن " على حد تعبيره، متناسياً على ما يبدو أن أبناء الشعب الفلسطيني الذين أخرجوا من ديارهم عنوة وعبر المذابح وعمليات القتل والطرد المنظم، هم الذين أشعلوا الثورة الفلسطينية المعاصرة بكامل مشمشها وتفاصيلها ومعانيها، برغم الصعاب والعقبات وقسوة الظروف، ليس حباً في السلطة والسلطان كما هو حالهُ وصَحبه في غزة، وإنما ليحموا من خلالها الحقوق الوطنية والتاريخية ويحافظوا على الهوية الوطنية الموحدة للشعب الفلسطيني وتثبيت موقعه على الخريطة، لا بل هي التي حَمَت أرداف الزهار وأمثاله من مدعي النضال والثورجية المراهقة.
حقاً أنه لأمر مؤسف وسخيف، أن نسمع من فوهة هكذا قادة يرفعون لواء الله والدين ويدعون ابتغاء مرضاته، كلاماً عجباً وحديث إفكٍ، يُسهِم في النيل من حقوق وكرامة شعبنا وفي تزوير حقائق التاريخ لصالح الأعداء على هذا النحو المخجل. وحتى اللحظة لم نسمع أي تصويبٍ أو توضيحٍ أو اعتذار جرئ يبرئ ساحة حماس من فعلة الزهار هذه ان كانوا صادقين وموقنين، ما يعني أن الزهار بِفِعْلَتِهِ هذه، يعكس موقفاً ورؤيةً سياسية بائسة لحماس كحركة، وليس مجرد خروج عن النص الوطني من قبل فردٍ بعينه.
إن هذه الممارسات والسلوكيات المكشوفة والفائحة، بكل ما تحمله وتعنيه من مواقف وسياسات ناشزة لا تليق بأي مُنْتَمٍ لفلسطينيتنا، فردية كانت أم رسمية، ومن فرية المقاومة التي يستظلون بها ويذرون الرماد في عيون الناس من خلالها بهدف الاستثمار السياسي وتسويق ذاتهم البغيضة هذه لدى الأمريكان والإسرائيليين، لا تنكر على الزهار وحماس حقهم في أن يرموا بياضهم ومغرياتهم للطرفين الإسرائيلي والأميركي سعياً وزحفاً لاعتمادهم وقبولهم طرفاً بديلاً لفتح والسلطة الوطنية، في إطار رحلتهم التي طالت في البحث عن هذا الرضى والرضوان الأميركي الإسرائيلي حتى سدة الاعتماد، وصحتين عاللي يِكسَب. لكن ما ليس من حقهم وعلى الشعب أن يحاسبهم، هو أنهم بهذا الكلام والخطاب البائس، جعلوا ذلك كله على حساب النيل من كرامة الشعب الفلسطيني ووطنيته وشهدائه ومن ثورته المعاصرة وحقوقه في تقرير المصير والعودة كلاجئين هجروا وليس كهاربين كما وصفهم الزهار. مع أن كلامه هذا هو الهروب الكبير والمفجع من جانبهم ، من كل المعاني والمضامين الوطنية لنضال شعبنا وحقوقه التي تمسكنا بها عبر السنين منذ ما قبل انفقاش البيضَه عن قَفاهُم السياسي، وقدمنا في سبيلها الغالي والنفيس.
إننا نتعرض لكل هذا ونحاكمه، من واقع معرفتنا ورؤيتنا لحقائق ما يجري، ليس في فلسطين وحسب، بل وفي المنطقة عموماً والعالم. إذ لم يعد ما يجري في فلسطين أو غيرها معزولاً أو مفصولاً أو بعيداً عن سياق ما يجري دولياً وإقليمياً. فإذا كان الزهار بحماسِهِ وحماسَتِه العبيطة، يريدون من كل هذا أن يسوقوا أنفسهم وسياساتهم، بهدف البحث عن اعتماد سياسي لهم لدى الإسرائيليين والأميركيين، يعتبر في الإطار الأضيق لسياسة الإخوان المسلمين بحلتها الجديدة. فإن الإطار الأوسع والأشمل الذي تأتي في سياقه وبوحيه سياسات حماس هذه السابحة في فَلَكِ وعلى مَتْنِ ذات المكوك الإخواني، الدائر في فضاء العالم والشرق الأوسط الجديد وزمن الربيع العربي المضمون لأصحابهِ ووكلائِه، هو ما تجري تجلياته في مصر الحالية. فها هو الرئيس محمد مرسي يقود بنفسه جبهة الحرب على بدو سيناء دون هوادة، ويُرَفِّع وَيَعْزِل ويُحَلِّل ويُحَرِّم ويَكُمِّم الأفواه ويُقيل من أعلى المستويات، بأقصى ما يمكن لديكتاتور أن يفعل. وكل ذلك تحت عيون أميركية إسرائيلية راضية ومرضية تكاد تقول له " برافو " إن لم تكن قد قالت صراحة " حتى الآن. ناهيك عن عمليات تقليم الأظافر وعمليات " الكورتاج، السياسي والإداري والتنظيمي، التي يُجريها بمبضَعِهِ في جِسْمَي الصحافة والإعلام وبعض مؤسسات الدولة، بما في ذلك جهازي التشريع والقضاء كبدايات رقصٍ في إطار الحَنْجَلَة الغِربانية السوداء. ناهيكَ عن ذات العدة في النصب والخداع حين أرسل مرسي رسالة التزام لنظيره الاسرائيلي ثم أنكر وحركته صحة الخبر، مع أنه موثق ومنشور بالصوت والصورة وبلاغة الأفعالْ على الأقوال، الجارية على الأرض والأصدق إنباءً من الأقوالْ. فلماذا تتوارون خلف ظلال وخيالات أفعالكم وسياساتكم المترجمة على الأرض وغير القابلة للتخفي والإنكار ان كنتم صادقين. فإمكانية مَسكِ العنزتين في آنٍ واحد أمر مستحيل وكان غيركُم أشطَرْ.
نعم يا سادة،واضح إنهم أرادوا بذلك أن يقولوا لواشنطن وتل أبيب معاً، أنا لكم الأخْيَرَ والأبْقى والأجزى والأقرب الأقَلُّ كُلْفَة، وكل هذا في سبيل الحصول على القبول. فالتاريخ يتحدث والتجربة الماثلة تصرخ مِلءَ السماءْ، لا بل وتقطر دماً وبطشاً في عمق سيناءْ.
فمعركة انقلاب غزه بالأمسِ، كانت من أجل كرسي، ولا تكاد تختلف عن معركة إخوان مصر في الكرسي ومرسي، حتى ولو تطلب الأمر أكثر من ذلك. فدمنا وأموالنا وعقولنا وحقوقنا عليهم حلال حين يتعلق الأمر بدفاعهم عن مصالحهم الخاصة وكراسي الحكم وسلطتهم، ودونهم ديكتاتور وظالم وعاصٍ لله ورسولهِ والمؤمنين اذا فعل ذات فعلهم. لكن الغريب والأمر العجيب في سلوك حماس مثلاً، أنهم ما زالوا برغم كل هذا يتصرفون ويخطبون علناً بمطالب ومواقف ثورية من مرسي وكأنهم يجهلون حقيقة أن الإخوان المسلمين حين اُجْلِسوا على الكرسي بمرسي، كانوا عملياً قد قبلوا وتعهدوا بشروط اللعبة الأميركية ذاتها التي جلس بفضلها مبارك عليه سنين طوال، وخلاف ذلك لم ولن يكون متاحاً لأحد. وبالتلي لا فضلَ لمرسي على سالفه مبارك إلاّ بهذه الأفعال فقط، أي "من الدَّلِفْ لَتَحْتِ المِزْرابْ". وشاهد ذلك اليوم، أن مرسي بقراراته وإجراءاته السابقة للزمن وتسارع القُدُرات، يقدم اليوم أطروحته القوية الكافية لتثبيت اعتماده أميركياً، تماماً مثلما قدمها غيره من قبلِهِ، فلا حاجة لإدعاء البطولة ونحن نرى هذه الهَمْبَقَه والهيلمان والدجل في سبيل الحكم والسلطان. فلتهنأ حماس والزهار بدبلوم الاعتماد وفحص الشامل الأميريكي الاسرائيلي إن نجحوا، ويهنأ مرسي بعدهُم بالدكتوراه.