إن نفعت الذكرى..!- احمد دحبور
قبل يومين وتسع وثلاثين سنة، في السادس من الشهر العاشر للعام 1973، حقق جيش مصر العربية نقلة العبور النوعية من غرب قناة السويس إلى شرقيها، كما أنجز الجيش العربي السوري خطوته الأولى نحو تحرير القنيطرة، وكان حرياً بهذه الذكرى المجيدة، أن تكون عيداً قومياً للعرب، لولا أن المياه العكرة التي ركدت في مستنقع الحياة السياسية قد هزت الصورة التذكارية للعرس الذي شوشه أنور السادات، بالإعلان أن حرب أكتوبر - تشرين هي آخر الحروب العربية الإسرائيلية، فيما أخذ حافظ الأسد، منذ ذلك التاريخ، يستخدم كلمة إسرائيل لأول مرة في القاموس السياسي السوري، بدلاً من عبارة الكيان الصهيوني التي تعني لقائلها وقارئها عدم الاعتراف بالنكبة، لتصبح كلمة إسرائيل إشارة إلى الاعتراف بالأمر الواقع، مع أن سورية لم تقدم هذا الاعتراف بالعدو حتى يوم الناس هذا. والواقع أن معركة العرب الوجودية هذه أكبر من مجرد مماحكة لغوية كانت تلزمنا بالتعفف عن استخدام كلمة إسرائيل، فليس المهم أن يكون اسم المعتدي إسرائيل أو الكيان الصهيوني، بل المهم هو محتوى هذا الصراع التاريخي الذي برزت خلاله مصطلحات ذات ضجيج إعلامي بمسحة ايديولوجية.
إن الضجيج هو الأب الشرعي للخطاب الإنشائي حيث تتضخم العبارة ويتضاءل المعنى، على غرار قول العرب قديماً: أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل، مع مفارقة مضحكة هي أن العدو قد اودى بأجزاء عزيزة من الأرض العربية لا بالإبل وحدها، وأن جهات رسمية عربية غير قليلة قد كفت عن محاربة العدو حتى بالشتيمة، فمن كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى ممانعة لا مناعة فيها وهي لا تزعج المحتل في كثير أو قليل.
وهكذا تمر ذكرى حرب تشرين فيرددها جيل مخضرم شهد الصراع العربي الصهيوني، وعاش حتى أصبح الصراع مجرد ذكرى، فيما لا تملك الأجيال الجديدة فكرة جذرية أو حتى واضحة عن هذا الصراع، مع أن فلسطين لا تزال محتلة في معظمها، والمرتفعات السورية - الجولان مأساة شبه منسية، أما تحرير القنيطرة وسيناء فهو تحرير يفتقد الشرط السيادي الأول، أعني حرية المواطن في حمل السلاح دفاعاً عن أرضه.
لقد قال شاعرنا الفلسطيني الراحل يوسف الخطيب ذات يوم: «مذاق النصر في قاموسك العربي فاكهة محرمة».. وفاكهة النصر المحرمة هذه تظل عديمة المذاق حتى لو أقمنا للنصر أعياداً واحتفالات وكرنفالات. وكرسنا لهذا النصر الأشبه بتسكين الأوجاع لغة خطابية هي كما قال الشاعر الراحل محمود درويش لغة «ضجيج المحيطات فيها ولا شيء فيها».. وإني لأتخيل صورة محمود وهو يمد لنا لسانه من وراء قبره في رام الله ساخراً من ان اللغة الراهنة ليس فيها حتى ضجيج المحيطات، ولكنك قد تطلب تصريحاً من أي نتنياهو أو أي باراك حتى تصل إلى أرض فلسطينية، اسمها حطين، فإذا وصلت إلى هناك تستطيع أن ترسم سهماً يدل على أثر قديم شبه ممحو، مكتوب عليه: هنا قبر المرحوم..
كتبت هذه التداعيات قبل ان أسمع كلمة الرئيس المصري د. محمد مرسي لمناسبة ذكرى حرب تشرين - اكتوبر، وبعد أن سمعتها لم أحذف ما كتبت ولكني اعترف للرجل بنزعته العقلانية والموضوعية النسبية في سياق الوضع الراهن، ولكن يظل أنه قد ورث حكماً جعل السادات عنوانه: نهاية الحرب مع إسرائيل، وأنا لا أزايد فأطلب من الرئيس مرسي أن يعلن الحرب، ولكني محكوم بخطاب حزين يقول إنه ما مات حق وراءه مطالب..
وبعد هذه الغيمة من التشاؤم تبرق فكرة الأمل، فقد راحت السكرة وجاءت الفكرة كما يقولون في الأمثال، والفكرة تطرح علينا جميعاً ذلك السؤال الخالد: ما العمل؟ فما العمل؟ ربما كنت مغالياً في القسوة على الذات، وأنا الذي كثيراً ما ضقت ذرعاً بثقافة التنكيل بالنفس على المستوى العام، لكنني أدير نظري في المشهد، فأكتشف أنني لا ألبس نظارة سوداء، وإنما المشهد العربي هو الأسود، وما من سبيل إلى استعادة النور إلا بالمكاشفة ووضع النقاط على الحروف، لا لجلد الذات، بل لاكتشاف بصيص في هذا النفق المعتم، وهو ما يعيدنا مرة ثالثة ورابعة وألفاً إلى الجواب عن السؤال الخالد: ما العمل؟ فبهذا لا يكون التحرير مرحوماً، ولا تظل فاكهة النصر محرمة على العربي، بل تستعيد حرب تشرين وكل حرب تحرير معناها بالمقاييس كافة بما فيها، بل في مدخلها مقياس فلسطين، ولعلي أذكر للرئيس مرسي أنه لم يغفل عن هذه النقطة، فضلاً عن إشارته الودية الواجبة إلى غزة.. إن في هذه وحدها إعادة اعتبار إلى الحدث الذي احتفلت مصر بذكراه التاسعة والثلاثين قبل يومين.