حماس بعد خالد مشعل- بكر ابوبكر
استطاع خالد مشعل أن يختط لنفسه رؤيا سياسية ونهجاً متميزاً داخل حماس، وهو إذ استفاد بشكل واضح من حراكه السياسي متنقلاً من موقع الناقد والمعارض والمشاهد إلى موقع العامل والمعتدل فإن ذلك لم يأت بسهولة، وإنما نتيجة التجارب التي عركته، والبصيرة والوعي والإدراك للكليات والجزئيات مما يمتلكه وان اختلفنا معه في اتجاه البصيرة أو الإدراك.
لقد خاض مشعل معاركه من أجل افتكاك السلطة من حركة فتح فدعم الانقلاب الأسود لتنظيمه في غزة باعتبار ما حصل (حسماً عسكرياً) عاد قبل أيام ليعتبره (شرا) كما قال في اسطنبول، وكانت معركته ضد الرئيس ابو مازن حول فتنة تقرير (غولدستون) المفتعلة، وحول انتهاء مدة الرئاسة والتشريعي معارك تشدّد فاشلة، كما وكانت معركته الأكبر والفاشلة أيضا هي محاولته الانقضاض على (م. ت.ف ) من خلال تشكيل منظمة بديلة في دمشق ما قبل الثورة السورية واتفاق القاهرة.
إلا أن معاركه هذه والتي كان الدعم السوري والقطري واضحاً فيها قد أثرت فيه بشكل كامل ليعيد التفكير في الهدف والوسائل وأولويات الصراع، فأخذ يبتعد تدريجياً عن نشاط التمرد والمعارضة «الطلابية»، وهو الذي ترعرع في شبابه في ظل هيمنة حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح على اتحاد الطلاب في جامعة الكويت.
وعن خالد مشعل وأسبابه بعدم الترشح ثانية لحماس كما نعتقد، وعن مصير التنظيم في ظل المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية سنتحدث، ولكن لا بد أن نعرّج أولا على مدارس أو تيارات حماس بقليل من الاضاءة والشرح.
المدارس الثلاث في حماس
في تنظيم حماس مدارس/تيارات تتجاور وتتقاطع في المنظمة الاخوانية بحيث ترى في أشخاص أو مجموعات نسب من هذه الفكرة/المدرسة، ونسب من تلك ما يعني أنها ليست مدارس منفصلة كليا وانما يدخلها الغالبية، بينما يدخل المدرسة الفكرانية فيها الجميع.
إن حماس تنظيم فكراني (ايديولوجي) لأنه فرع الإخوان المسلمين الفلسطيني كما يقول في ميثاقه، وبذلك فإن تعبئتة الداخلية اخوانية مرتبطة بالخلافة الإسلامية وتضخيم المظلومية واتهام الأخر (حدود الاتهام تتراوح من تخطيئه إلى الحكم بجاهليته وصولاً لنبذه أو إقصائه أوتكفيره) ومرتبطة (بالفكر الرباني) الذي يعتقد بذاته دون غيره أنه القادر على حمل الرسالة، وبذلك فهم دون سواهم الأحق بالرئاسة والقيادة (حسب فكرانيتهم=أيديولوجيتهم) لا سيما وان «كراسات» العمل السري قد أضفت قداسة (مذمومة) على شخصيات وكتب وأفكار إنسانية خرجت من رحم الإخوان، هذا أوان مراجعتها ونقضها أو نقدها في خضم (الانقلاب) الفكري الحاصل في جماعة الإخوان المسلمين اليوم.
إن التعبئة الداخلية والتربية التنظيمية في حماس التي تصل الى حد بناء الأحقاد والحواجز مع الآخر ونفيه (يراجع كتاب عماد الفالوجي الواضح في ذلك) مرتبطة بعاملين الأول هو(التنزيه) للمنتمين لحماس أوالإخوان المسلمين والثاني هو ( التحريض) ضد الأخر المسلم مالا يستقيم اليوم في ظل تنامي وظهور التيارات الاسلاموية الأخرى، وفي ظل انكفاء «الملحدين» في اليسار العربي، بحيث أصبحت الساحة ساحة صراع بين مسلمين، وهم جميعا بالضرورة إسلاميين وبعضهم البعض، وان كانوا بأفكار وطنية أو حرياتية (ليبرالية) أو مدنية أو يسارية أو اسلاموية.
ان الفكرانية (الايديولوجية) والتعبئة الداخلية في حماس تصطدم بالتيار السلطوي وممارسته من جهة، وبالواقعية السياسية من جهة أخرى ما يؤجج الصراع الفكري التنظيمي ما هو من مواصفات التنظيمات الحية والقابلة للتطور (أي الصراع) إلا أن تم وأد مثل هذه الصراعات الصحية بالبتر والاقصاء المرتبطة بعقلية ذوي المصالح الذين يستغلون الدين والسلطة والسياسة لدوام وجودهم.
إن كانت المدرسة الفكرانية (الايديولوجية) في حماس تمثل أصل التربية والبناء فإن العمل السياسي «الواقعي» يلقي ظلالاً ثقيلة على هذه المدرسة ويتصادم معها، فأين التحرير الكامل من دولة على حدود 1967 وأين الكفاح المسلح من المقاومة السلمية وأين العداء للاميركان من اللقاءات التي لا تنقطع معهم؟! كلها تناقضات بين المدرستين، ويظهر أيضا حال مدرسة السلطة وتعاملها مع الواقع على حساب الفكرانية، وفي هذا الصدد سنلحظ من زاوية فكرية سياسية اجتماعية صراعاً أو ربما استراحة محارب أو تقاطعات في الشخوص بين المدارس الثلاث (الفكرانية والسلطوية والسياسية الواقعية).
ان المدرسة الفكرانية (الايديولوجية) في حماس والإخوان هي مدرسة ( الولاء، والبراء، والاستعلاء) وهي مدرسة الفكر المنعزل المستقل بذاته المقدس المتنزه عن العيوب، وهو فكر الإقصاء للآخر باعتباره دوماً شر مطلق ولا ينبغي الخير أبداً لهم، ولا يمكن الاستفادة منهم أو التقاطع معهم.
بينما «مدرسة السلطة» هي مدرسة التخفف من الاشتراطات الفكرانية، أو استخدامها لتبرير الظلم والاستبداد وانعدام العدالة وقمع الآخر حيث تحكمها المصالح الاقتصادية السياسية التي ترى في السيطرة على قطاع غزة وتكسير أكبر الرؤوس من المخالفين في حماس وخارجها ضرورة لا بد منها في سبيل استمرار الانقلاب وربما (الاستقلال) بغزة عن الضفة في ظل هدنة أبدية مع الاحتلال في سراطية (إستراتيجية) لإبقاء رؤوس أصحابها تشم الهواء دون اغتيالات من الاحتلال، وتواصلها في حكم المساحة المتاح ممارسة السلطة بها لاسيما والتكرار المتواصل لبعض قيادات حماس إننا سنقيم دولة على أي شبر سيتم تحريره، وغزة محررة والضفة لم يأت زمانها بعد حسب ما يروجون.
ان المدرسة الثالثة في حماس هي مدرسة السياسة «الواقعية» التي تقارن وتوازن بين أفضل السبل للتعامل مع الحراكات السياسة والتسوية والضغط الخارجي من جهة وبين المقاومة بأي شكل هو أنسب، وبين طريقة/وسيلة قيادة الشعب الفلسطيني كبديل شامل أم كشريك كامل أم كشريك مهيمن، وفي اطار (م.ت.ف) أم خارجها.
إن المدارس الثلاث في حماس، وواقعية مدرسة خالد مشعل في مقابل النهج السلطوي الفكراني ستكون على المحك بعد أن يخرج مشعل من موقعه إلى موقع آخر، فالأيام حبلى والمتغيرات كثيرة، ومن يتقوقع في السر قد ينجو، ولكن في العلن يرتطم بصخور الفضاءات المفتوحة.
التغيير في مواقف مشعل
لقد خفت حدة الاندفاع لدى مشعل عن السقوط الكلي في حضن تيار «سلطة» حماس تحت الاحتلال في غزة، واستقام تفكيره مؤخراً –باعتقادي- لجهة التوافق مع طروحات حركة فتح و(م.ت.ف) والرئيس ابو مازن والحركة الوطنية عموماً ما كان واضحاً بموافقته على الدولة الفلسطينية المستقلة في حدود 1967 وعلى المقاومة الشعبية السلمية وعلى الحراك الدولي، كل ذلك الذي أغضب تيارات حماس السلطة في غزة حتى أزعجوه بالغمز واللمز الداخلي ضده ناقدينه بشدة على أنه باع نفسه لأبي مازن كما تردد في بعض التقارير.
ولنا أن نعود لخطابه الأخير في اسطنبول لنرى التغيير حيث اعتبر أن الحل للقضية الفلسطينية أما بالحراك الدولي الضاغط على (إسرائيل) لإفتكاك الدولة، أو بالمقاومة، وهو إذ ذكر الاحتمالين فإن لهجته في مهرجان صلاح الدين الأيوبي في القاهرة قد تصاعدت لجهة تفضيل الثاني على الأول، وفي كل الأحوال فإنه استفاد من تجربته في العلاقات الداخلية والعربية، وفي احتكاكه بأقطاب الحركة الوطنية الفلسطينية ليبتعد عن التطرف في الرأي والمواقف والتصريحات فيتموقع في معسكر الاعتدال.
إن العقلية العملانية (البراغمانية) لخالد مشعل لم تتشكل بين ليلة وضحاها، وإنما عبر السنين، والقائد الذي لا يدرك المتغيرات ينكشف ويسقط، ومن يدركها ويحسبها يعرف أين يضع قدميه ويعرف دوره قطعاً وحدود حركته، وهذا الرجل هو من هذه الفئة التي كان ياسر عرفات ممثلها الحقيقي حيث السير في حقل الأشواك.
لقد كان «لممانعة» محور غزة الحمساوي السلطوي لأفكار ورؤيا ومواقف خالد مشعل المتطورة باتجاه اليمين أن شكلت عامل (تقزز واشمئزاز) لديهم -كما وصف العبادسة خطاب أبي مازن الثاني في الأمم المتحدة بشكل معيب- ولم يظهر تصلب هذه المحور السلطوي الآن بل منذ حوارات دمشق مع حركة فتح لتحقيق المصالحة حيث كان (اسماعيل الأشقر) أحد رموز هذه الممانعة الشديدة للمصالحة ممثلا لتيار غزة السلطوي، إذ لم يقف أمام الاتفاق حينها إلا البند الأمني الذي تذرع به الأشقر كي لا يتم الاتفاق مظهراً انشقاق هذا المحور عن التيار العام في حماس الذي يقوده مشعل منذ العام 2009.
أسباب انسحاب مشعل
إننا من الممكن أن نضع أسباباً خمسة دعت خالد مشعل لأن يتنحى عن رئاسة المكتب السياسي لحماس ليس منها النظام الداخلي الذي لا يخولّه ذلك، فهو صنع إنساني وقابل للتغيير، وإنما كان العامل الأول هو ما ذكرناه من اصطدامه المتكرر مع محور غزة ما أفضى به مرارا للمقربين في حماس وخارجها، هذا المحورالذي تصلب بزعامة محمود الزهار خاصة ضد اتفاق الدوحة الذي يطالب بانتخابات وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة أبو مازن، وبالفعل ورغم موافقة مجلس الشورى لاحقاً على الاتفاق إلا أن التيار المهيمن في غزة عطّل عملياً الاتفاق.
لقد كان لفقدان خالد مشعل الحليف السوري الذي دافع عنه بقوة مع بداية الثورة السورية مناقضا الشيخ يوسف القرضاوي ومشتبكا معه تأثيراً كبيراً، إذ خرج مشغل من مكمنه في دمشق إلى الدوحة، وانقلب على الحليف فأصبح أكثر ضعفاً مع تغوّل حماس غزة وفقدانه أيضاً الحليف الإيراني.
كما أن العامل الثالث تمثل في تماهي خالد مشعل مع جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي لها والتي توافقت (مصر/تركيا/ قطر/ تونس......) ضد النظام السوري، فلم يعد يستقيم ان يشذ خالد مشعل أو حماس عن ذلك فانحاز ( للربيع العربي) الذي يسعى لإدارة المنطقة بقيادة الإخوان، المسلمين وبالتوافق التام مع الوجود والمصالح الاميركية ودون تصادم مع(إسرائيل)أو اميركا أو أوروبا.
أما العامل الرابع فهو عامل التطور الفكري-السياسي لدى خالد مشعل إذ أخذت نظرته في ظل قناعاته باستحالة أو صعوبة التحرير في هذا الظرف العربي والعالمي تأخذ منحنى تصالحي مع أطر (م.ت.ف) ومع منهجها وتوجهاتها، أي أنه أصبح يقترب كلياً من محور العقلانية والواقعية السياسية بعيداً عن الشعارات البراقة التي أدمن محور غزة رفعها دون أن يدفع لها ثمناً مادام الاتفاق الواقعي مع( إسرائيل) يتمثل بضبط السلاح مقابل امتناع (اسرائيل) عن اغتيال قيادات حماس في القطاع.
أما العامل الخامس والذي نظّر له عدد من الكتاب وقيادات حماس مثل أسامة حمدان وعزت الرشق (الرشق من تيار مشعل ومن طلبة جامعة الكويت سابقا) فهو ايمان مشعل بالتداول (نظرّت قيادات حماس-غزة بعد فوز 2006 أن فوزها للأبد وأنها حكومة ربانية) وبالديمقراطية، وقد وصل حدا جعله يترك موقعه (وليس دوره) في حماس أو الاخوان المسلمين ليتيح المجال للشباب ضارباً بذلك نموذجاً ومثلاً تغنّى به علي بدوان، وكتّاب آخرين وصل بهم التطرف إلى حد اعتبار تنحي خالد مشعل شبيها بتنحي الحسن بن علي (رضي الله عنهما) لصالح الجماعة بعد الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي.
غياب مشعل وتأثيراته
إن غياب خالد مشعل عن حماس ليس بالشيء الهين أو البسيط، وان حاول العديد من قيادات حماس في غزة التقليل من شأنه (فهو لم يكن جديدُهُ جملةً في حماس كما قال أسامة حمدان عن خطاب أبي مازن في الأمم المتحدة متهكما بشكل غير لائق أن جديدَهُ فقط جملة (بسم الله الرحمان الرحيم)، ولم يكن خالد مشعل رقما في حماس ليتم تصوير الأمر على أنه عمل مؤسسات ولا تتأثر بالأشخاص ما هو غير صحيح البته، فالسياسات والنهج وأساليب القيادة مقترنة في عالمنا العربي والإسلامي حتى الآن بالأشخاص، وتأثيراتهم بينّة وواضحة لا سيما متى ما اقترنت السلطة على الرجال والرؤية والجاذبية (الكاريزما) والنفوذ بالمال والسلاح.
لذلك فإن غيابه قد يؤثر على خريطة التوازنات الداخلية في حماس بين محاورها الثلاثة تلك المرتبطة بالشخوص: محور مشعل، ومحور/تيار د.موسى أبو مرزوق ومحور غزة السلطوي لا سيما والتقارير تشير لضعف محور مشعل في مجلس الشورى لحماس المقبلة على انتخابات لرئيسها، ومن هنا أيضاً فان خريطة العلاقات مع قيادات دول « الربيع الاخواني» قد تتأثر أو تؤثر بالشخصية القادمة لقيادة حماس.
ان غياب خالد مشعل عن قيادة حماس قد لا يؤثر كثيرا على مساحة العلاقات مع إيران أو مصر، وإنما سيقطع كلياً مع سوريا، وربما سيجعل من خليفته يفكر ملياً بصعوبة الجمع بين « التطرف» الإيراني المناوئ لاميركا و» الاعتدال» الاخواني الموالي لاميركا في مقابلة صعبة بين الدعم الاميركي المطلق (لإسرائيل ) وهشاشة الوضع العربي وانشغالاته « اخوانيا» بترتيب الأوضاع الداخلية لكل بلد.
إن شكل حماس القادم في ظل تياراتها المتصارعة وخريطة المتغيرات قد يكون لرئيسها دور كبير في رسم اللوحة داخلياً وخارجياً.
إن غزة السلطوية تعمل على فصل غزة (الحرة المستقلة) عن الضفة المحتلة كما تنظّر ما سيؤثر على رئيس المنظمة الاخوانية الفلسطينية القادم، لا سيما وان هذا التيار يؤمن بتكريس الأمر الواقع (كما فعل في قطاع غزة بالسيطرة التعسفية) حيث يمد جسور التعاون الثنائي بين (دويلة غزة) ومصر ممثلة بالتنسيق الأمني المشترك والتعاون على الحدود ومطاردة المتطرفين من الاسلامويين الآخرين وتخطط لبناء علاقات اقتصادية مثمرة من خلال منطقة تجارة حرة وفتح المعابر مع مصر دون أي وجود للسلطة الفلسطينية الشرعية.
ان شخصية خالد مشعل الواقعية والعملانية وذات العلاقات المتزنة تتمتع بجاذبية وقدرة على جمع التيارات المتناقضة داخل حماس، ورغم علو الصوت مؤخرا ضده فانه قد يصعب ان يكون بديل له بذات النفوذ والقدرة مما سيشي بمتغيرات مفصلية في حماس.