أعراسنا - عائشة عودة
أعلن صراحة: لقد سئمت من أعراسنا
واسمحوا لي أن أقول إننا كمجتمع قد صنعنا لأنفسنا فخاً اسمه حفلات الأعراس، لتستهلك جهدنا ووقتنا وإمكانياتنا وتصدع رؤوسنا، وتعمق سلسلة من القيم السلبية من استهلاك واستعراض وفخفخة فارغة وغبية، ومجاملات لا ضرورة لها، تتعارض كلها مع واقعنا الذي يسيطر عليه إحتلال يسحب الأرض من تحتنا ويجردنا من كل إمكانياتنا. وأرجو ألا يزاود أحد من أننا أحوج ما نكون إلى الفرح، لأن الفرح الناتج عن فخفخة فارغة هو فرح غبي وضحك على الذات، ولنتأكد من صحة ذلك، علينا زيارة أهل العرس بعد شهر من الحفلة، لتسمعوا كلام الفكرة بعد أن ذهبت السكرة.
المعظم يتذمر ولا أحد يُقدم على التغيير. والمتذمرون والناقدون تجدهم الأشد تمسكا بكل العادات ويزيدون من باب المزاودة كما لو كانوا يكفرون عن ذنب اقترفوه حين كانوا ينتقدون.
هل وقتنا وإمكانيتنا رخيصة بحيث نرمي بهما كيفما اتفق؟ نجري من عرس إلى عرس ونلهث من حفلة إلى أخرى، ومن نقوط هنا وهدية هناك، وكلها للمجاملة، كأن حياتنا منذورة للمجاملات فقط. تكد الأسرة ليل نهار ولسنوات طويلة، لتوفير تكاليف حفلات الزواج الباهظة، وقد لا تكفي فيلجؤون إلى القروض أو الديون، أو يبيعون قطعة أرض إن كان لديهم أرض. الغرق في ديون تكسر الظهر وتؤسي الكرامة واحترام الذات! ومع ذلك، لا نتوانى بعن إضافة المزيد من التعقيدات والتكاليف، فنحن لا نعرف الاختصار. حفلات الأعراس عديدة: حفلة الطُلبة وحفلة الخطبة وحفلة الحنة وحفلة الزفة والغداء والسهرة وما يرافقها من إطلاق للألعاب النارية في أحسن الأحوال إن لم يكن إطلاق الرصاص الحي، وحفلة كل الحفلات وهي حفلة العرس. وفي هذه المناسبة نستعرض كرمنا وجماهيريتنا. نطبع بطاقات العرس ونلف وندور لتوزيعها، نقدم الحلو والمشروبات في كل حفلة، إضافة إلى كعكة العرسان المكونة من عدة طبقات، وتلبيس الذهب. أما وجبة الغداء؛ فيتوجب نحر العشرات من الخراف إن لم تكن عجولا، والبعض يضيف عشاء زيادة في الكرم والفخفخة. وطبعا هناك فِرَق الغناء وفرق الدبكة (هذه حديثة وسرعان ما ستنتشر)، وطواقم التصوير، وحجز صالونات التجميل التي تكلف العديد من الآلاف، واستئجار القاعات لتتسع للجماهير الغفيرة التي قد تُعد بالآلاف، أربعة أخماسهم يجلسون/ يجلسن مقطبو أو مقطبات الجبين يتفرجن على من يرقصن على أصوات السماعات التي تزلزل المكان وتصم الآذان من شدتها، لأنغام وأغاني مأخوذة في معظمها من زمن العبودية (يا اللي فوق ارحم عبيدك) أو من زمن غارق في التخلف ( لكب السكن ع راسو،، ولخلي الكلب إزمو). تدور النساء في حركة دائرية روتينة حد الملل، بينما ترى الكثير من الوجوه منزوع منها الفرح، فقطبت الجبين وزمّت الشفاه!!.
أعرف شخصا ذبح 40 خروفا! ثم راح يفتخر بأن الأكل الذي كبّوه أكثر من الذي تم أكله!! (أليست هذه مدعاة للخجل لا للفخر) وكانت نسائه تلبس عددا من الكيلوغرامات من الذهب يعرضنها على صدورهن ورؤوسهن وفي أيديهن، بينما هذا الفرد بعينه شكا العوز حين عرض عليه شراء بطاقة لعشاء تقشفي أقامته جمعية خيرية في قريته ثمنها 20 شيقلا فقط!!!!!
نعم، سئمت حفلات أعراسنا وما تحمله من تناقضات تستعصي عليّ ابتلاعها، وتتعارض مع أبسط قواعد المنطق والحس بالمسؤولية العامة وحتى المصلحة الخاصة الحقيقية، كأننا نتفنن في أشكال الهروب من مواجهة واقعنا، نهرب من تحمل المسؤوليات التي يفرضها الواقع بالضرورة. فالأرض التي نقف عليها تتسرب وتسحب من تحت أقدامنا، والمستقبل يسد بجدار يمنع عنا رؤية أفق ما، والماضي يتم تزويره وإعادة تسميته بلغة أخرى لتخلق له انتماء غير الانتماء لنا!! بينما نحن غارقون بكل ما يبعدنا عن تحمل مسؤولياتنا تجاه أنفسنا وحقوقنا الوطنية ومستقبلنا. الشعب غارق في الأعراس والمهرجانات، والسياسيون غارقون في الحديث عما يفعله العدو وفي تحليلاتهم غير المعمقة يكررونها حيثما حلوا في الجلسات والسهرات وعلى الفضائيات المحليات والعالميات، والإذاعات التي لها بعض الاهتمامات السياسية والعامة، أما باقي الإذاعات المحلية، فتنءا بنفسها عن أي اهتمام عام، فحسبها تضع أشرطة الغناء التي تعجبها وتذيع الدعايات التي تُرْبحها معيشتها، أو أشرطة لتلاوة القرآن الكريم يتخللها أحيانا أدعية. والباحثون من الأكادميين مستغرقون في كتابة الابحاث المطلوبة من المانحين، والتجار يتسابقون في ترويج البضائع الاسرائيلية أو الصينية أو التركية لتحقيق أرباح لا تعرف حدودا للنهم. فيبنون القصور التي لا تجد لها مثيلا في الدول الغنية مثل ألمانيا واليابان وروسيا (ربما يتم استثناء قصور عهد القياصرة). يشترون سيارات فخمة وضخمة تسد شوارعنا الضيقة. أما خطباء المساجد فحدث ولا حرج، فهم يجترّون دروسهم مئات المرات إن لم تكن آلافاً.
هذه ليست لوحة سوريالية.
"ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم.