بعض ما قاله مشعل- عدلي صادق
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
لا نقاش في كون أخينا خالد مشعل، صاحب صوت عقلاني مميز ومستنير، في هذا الخضم الفلسطيني الملتبس، ويستحدث وُجهة سياسية في تعاطي "حماس" مع وقائع المشهد الوطني والإقليمي. لكن ما طرحه عن تجربة حركته، في مؤتمر بعنوان "الإسلاميون والحكم الديموقراطي" الذي اختتم أعماله في قطر قبل أيام؛ يحتاج الى وقفة.
نقّر، بداية، أن مشعل، مضطر للاقتضاب الشديد في وصف التجربة الحمساوية في غزة، واختزالها في مجرد أخطاء (وجلّ من لا يخطئ) والتعريف بالدافع "الإخواني" اليها، بمنطق الاضطرار لخوض التجربة، بهدف "الحد من سلبيات أوسلو" والرغبة في الجمع بين سلطة الحكم والمقاومة (!!!).
حركة "حماس" بالمعنى التنظيمي المباشر، هي الذراع العسكري للحلقة الفلسطينية من جماعة "الإخوان المسلمين". هي إذاً، من قلب الإسلام السياسي وليست منفصلة عنه مثلما يقول مشعل. ثم إن تصريحات "الجماعة" في مهرجانات غزة بعد "التمكين" عبّرت في مناسبات عدة، عن كون الحكم في هذه المنطقة يمثل جزءاً من الكل الإقليمي لجماعة "الإخوان". ولا نعلم سبب انكار خالد مشعل لهذه الحقيقة.
ربما لأن السياسي "الإخواني" لا يرغب في وضع الإسلام السياسي في فلسطين، في الدائرة التي طرحت فيها "حماس" نفسها، واتخذت منها منطلقاً للسيطرة الأحادية على غزة، وهي دائرة "المقاومة" التي لم تعد واقعاً ولا نهجاً للحركة.
أما الذي حدث في غزة، فقد أظهر أن ممارسات الحكم الحمساوي، لا تنم عن نزوع الى البذل والتضحية.
ففي بُنية هذا الحكم، ليست هناك حقائق صارخة أكثر من الرغبة في الحكم من أجل الحكم واستمراره، وفي ما يستتبعه من الجباية، وامتلاك العقارات، والقبضة الأمنية، وسد الآفاق الى الحرية والمجتمع التعددي والديموقراطية، وتخليق شرائح اجتماعية حمساوية، من ملاكي الأراضي الذين يُلهبون أسعارها بالمضاربة، باستخدام فوائض مالية، إما توافرت من اعتصار المجتمع، أو من مساعدات مالية جاءت من الأبعدين لغرض إسناد المقاومة.
فقد كان الأمر يتعلق منذ البداية، بالاستحواذ على السلطة وممارسة الرفاهية، وهذه حقيقة تعكسها أنواع السيارات والمنازل ومظاهر العيش.
والواقع في هذا السياق، لم يكن أن مجموعة من الناس المنضوين تحت راية "حماس" كانوا يقصدون الجمع بين السلطة والمقاومة، ثم بدا الأمر لهم صعباً فتعطلت عملية الجمع. فلو كان ذلك صحيحاً، لظل السلوك زاهداً وحانياً تجاه الناس، ومقدراً لمن ناضلوا وأعطوا، ومثالاً للأجيال، وأقل تشبثاً بالسلطة، وحريصاً على الحفاظ على سمعة الإسلاميين، لا ممثلاً لأنموذج بات كابوساً مقلقاً لمن يتابعون تفصيلات التجربة من الإسلاميين العرب، ومفرحاً لمن يتمنون فشل الإسلاميين وينتظرون مثالاً حيّاً يثبت صواب تنظيراتهم المضادة. وفي هذه النقطة، تحضرني سطور كتبتها في "القدس العربي" عندما تم التوقيع على "أوسلو" التي لم تقنعنا.
قلت آنذاك: أما وقد وقعت الفأس في الرأس، ننصح قبل أن يبدأ التطبيق، بالذهاب فوراً الى إصلاح عاجل، من شأنه إحداث بنية جديدة ملائمة، لإطار الحركة الوطنية، لكي ندخل هذه التجربة ببنية صلبة للمقاومة، لا ببنية مترهلة. وربما يكون الدخول الى معترك سياسي عسير، ببنية القتال، أفضل من دخول القتال نفسه، ببنية رخوة تؤذيها شوائب فساد وعطالة.
فلو كانت "حماس" أرادت فعلاً الجمع بين السلطة والمقاومة، ثم اكتشفت أن هذا صعب أو مستحيل؛ لحافظت على الأقل، على بُنية المقاومة، من حيث هي منظومة أخلاق تنضح بالوطنية والزهد والترفع عن مباذل الدنيا!
أما حكاية الجمع بين الأمرين، أي السلطة والمقاومة، فهذه فرضية نظرية غير جادة وغير عملية، ولا نعتقد أنها يمكن أن تطرأ على ذهن أي راغب من "حماس" في الإمساك بمقاليد سلطة نشأت بشروط تعاقدية، وبشروط في الواقع، لا يملك المجتمع الفلسطيني أن يغيّر طابعها، حتى ولو تحول كل إنسان من أهالي غزة، الى قنبلة متفجرة، وتحولت العصافير في سماء غزة وفوق اشجارها، الى طائرات استطلاعية من طراز "أيوب"!
مؤسف جداً، أن يقول خالد مشعل، إن الزعيم الشهيد ياسر عرفات، وافق على تأسيس سلطة قبل تحرير الأرض.
إن تحرير الأرض هنا، فرضية نظرية، بذل أبو عمار حياته لكي يجعلها برنامج عمل، ولم يكن أمامه أن يختار فيعطي الأولوية للتحرير على تأسيس السلطة.
أبو عمار تفاءل والتصق بظواهر عبد الناصر وكاسترو وكل ثوريي الدنيا، والخميني وحافظ الأسد وصدام حسين، ولم يكن اثنان في هذه الدنيا، يفكران بالثورة إلا وكان أبو عمار أو أبو جهاد ثالثهما. وأبو عمار، سراً وعلانية، ساند الحركات الإسلامية، في أطوار تشكيلها الأولى، ووقف مع اليسار ومع كل ذي خطاب. فأي تحرير هذا الذي لم يسع اليه أبو عمار قبل أن يطغى الظلم وتُغلق في وجهه الآفاق؟ ففي الفصل الأخير من ملحمته، حوصر ولم يتلق اتصال مجاملة لا من إيران ولا من حكام دمشق الذين بذلوا الجهد لكي لا يظهر وهو محاصر، عبر تقنية الفيديو في مؤتمر القمة.
وأكمل الحمساويون في غزة، المهمة بعد استشهاده، ليدوسوا صوره بأحذيتهم في يوم الانقلاب. وحتى عندما تأسست السلطة، كان أبو عمار والحركة الوطنية التي معه، محاصرين تماماً. ما كان يتمناه الرجل، بعد أن سقط الرهان على كل ذي خطاب ثوري عريض، هو الانتقال الى جغرافيا الوطن. كانت فلسطين، على الرغم من قيود "أوسلو" أرحب وأوسع من وطن عربي شاسع كان يحاول خنقنا بجريرة موقف من حرب الخليج واحتلال الكويت، أساءوا قراءته عمداً. كان الرجل يسعى الى حل عربي لكي لا يُدمر العراق ويصل الى ما وصل اليه الآن. وبدل أن يبدأ الإسلاميون الفلسطينيون، من حيث انتهى أبو عمار، بدأوا ـ للأسف ـ من حيث بدأ وبطريقة الهواء المتعجلين لـ "رزقهم". فإن كان أبو عمار ظل يحاول لثلاثين سنة، فإن "الإخوان" الفلسطينيين، لم يحاولوا لثلاثين شهراً، قبل أن ينفضوا ايديهم من المقاومة، ويلوذوا في غزة، الى العنفوان العقاري والسيارات الفارهة و"بطولات" الجباية والمكوس، ومباهج الحياة!
هذه وقفة أحسبها موضوعية، تعليقاً على بعض الطرح النظري للأخ خالد مشعل، في مؤتمر نظمه مركز عزمي بشارة للأبحاث ودراسة السياسات. وأخونا عزمي هذا، جرّب وحاول بالمقلوب، إذ بدأ عضواً في برلمان إسرائيل، وانتهى منظّراً لمعسكر الطنين العربي الذي هو بلا طحن. نحن بدأنا بالطنين مع الطحن والقتال، وأوصلتنا الدروب العربية، الى حال السكون مع التشبث بهدف الاستقلال والحرية. إقامتنا القسرية في حال السكون هذا، ليست ترفاً. إنها تلائم واقع أمة ما تزال تتلمس طريقها الى حقوقها الأساسية، في مجرد لقمة الخبز النظيفة والعيش الحر الآمن!
www.adlisadek.net
adlishaban@hotmail.com