عيد الكتاب- احمد دحبور
تتولى رام الله هذه الأيام، مهمة حضارية تلقائية، بإقامة معرض فلسطين الثامن للكتاب، حيث أعطت وزارة الثقافة عنواناً دالاً لهذا المعرض، هو بالقراءة نرتقي، وفي هذا العنوان إعادة اعتبار للكتاب الورقي بعد جائحة المعلوماتية الحديثة ونظمها الالكترونية، فنحن الذين اتخذنا قراراً بالشراكة في هذا العصر، لا الاكتفاء بمواقع الضيوف، نعي أن الحداثة بمفرداتها كافة أصبحت هي الخطاب الإنساني المعتمد، لكننا نعي بالقدر ذاته، ما قاله أسلافنا بخصوص أن من خلع ثيابه فقد أصبح عارياً، ولن نخلع ثيابنا المفصلة من الكتاب الورقي بما لا يتعارض مع دورة الحياة وتقدمها.
والواقع أنه إذا كان الفضل في إحياء هذا العيد الثقافي عائداً إلى وزارة الثقافة الفلسطينية واللجنة المديرة للمعرض، فإن هناك طرفاً رئيساً في عملية نجاح هذا المعرض، هو الجمهور الفلسطيني الذي تدفق إلى رام الله من كل صوب حتى ليأخذك الزهو والخيلاء في هذه الجموع التي لم تصرفها مشاغل الحياة اليومية، ولم يعرقلها ضيق ذات اليد، ولم تؤخرها المسافات المتباعدة عن المشاركة في هذا المعرض الذي تحول عفوياً إلى عيد وطني حتى أني سمعت سيدة تقول لأحد الضيوف: كل عام وأنتم بخير.
وكل عام وأنتم بخير، لا بالقوة والرغبة وحسب، بل بالواقع الملموس.. ومن فاته - في هذه الضائقة العابرة - أن يحصل على كتاب يتمناه، فإن الأمر كما قال نزار قباني قبل زهاء سبعة عقود: لا تقنطي إن رأيت الحبر مبتعداً يوماً، ففي كل عام يطبع الورق.. ولنراهن على استمرار هذا العيد الورقي فهو علامة حياة وحيوية.. وبالقراءة نرتقي.
وما يبعث على الغبطة والتفاؤل أكثر من أي مناسبة، أن معرض الكتاب ليس مقصوراً على هذا الكرنفال الثقافي القائم على زيارة الكتب وزيادتها في المكتبات الشخصية والعامة، بل إنه مدعوم بفعاليات جادة تشمل الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية والقصصية والحفاوة بأدب الأطفال، إضافة إلى عمليات توقيع الكتب من مؤلفيها وتجديد جسور المعرفة والتعاون في إطار الصداقة والتعارف.
على المستوى الشخصي، لا أنكر أن لجنة المعرض قد طوقت عنقي بتكريمها، لا باعتباري ضيف شرف وحسب، بل لتعزيز شأني في وضعي إلى جانب شاعرتنا الكبيرة سلمى الخضراء الجيوسي، فهذه الخضراء المتعالية على وطأة عقود من السنوات، ظلت صامدة على المسرح منذ أن أصدرت مجموعتها الشهيرة «العودة من النبع الحالم»، وأردفت شعرها الرائد بجهد دؤوب في الترجمة والتعريف بالثقافة العربية في العالم، وبخاصة في مشروعها الكبير الذي أطلقت عليه اسم بروتا.. فكأن آلهة البحر تضافرت مع آلهة الثقافة لتكرم الإبداع لا بمدح المبدعين، بل بالأخذ بأيديهم.. وما زلت أعجب من أن أقف لهذه المناسبة إلى جانب هذه القامة الفارهة وأنا الذي حاولت أن أحضر إحدى أمسياتها في مقتبل عمري فمنعتني إدارة المركز الثقافي في حمص يومها بدعوى صغر سني، إلى أن تدخل ملاكي الحارس ومعلمي الشاعر المرحوم موريس قبق فاشترط دخوله إلى الأمسية بالسماح لي بالدخول..
وهكذا تتناسل الثقافة وتتسع، يحمي الكبير صغيراً متدرباً يحبو، ولا يرى الصغير فارقاً في السن يمنعه من الاطلاع واستزادة المعرفة والاكتشاف.. هذه الخواطر كلها ازدحمت في ذهني ومخيلتي وأنا أشاهد الأجيال الجديدة تتدافع إلى عيد الكتاب بوصفه عرساً ديمقراطياً يتسع لكل من يرغب فيه.
فإذا نقلنا المشهد إلى الساحة الوطنية وجدنا أننا معشر بني فلسطين، مدينون للثقافة والكتاب بإبقائنا على قيد الحياة!! ففي سنوات النكبة الأولى، حين لم تكن لنا قوة سياسية تعبر عنا، كان لنا ما يدل علينا بقوة واقتدار فمن أبي سلمى إلى جبرا ابراهيم جبرا إلى فدوى طوقان إلى ابراهيم طوقان إلى محمد العدناني.. قائمة طويلة من المبدعين الفلسطينيين تولت مهمة التعريف بهذا الشعب.. حتى إذا وصلنا إلى محمود درويش وادوارد سعيد وسميح القاسم وهشام شرابي وابراهيم أبو لغد، صرنا رقماً استثنائياً لا يمكن تجاهله في المشهد الثقافي العالمي.. والأسماء الواردة هنا ليست إلا عينات من موكب طويل عريض في المشهد الثقافي العربي.. هكذا يحق لي أن أجيب تلك السيدة بالمعايدة التي تستحق.. كل عام وأنت بخير.. وفلسطيننا وثقافتنا على طريق الخير والعطاء..