دعوة للنقاش
المقالة ادناه تحمل وجهة نظر تحليلية، تحتمل الكثير من النقاش ، ورؤية سياسية وان كانت " سوداوية " على نحو موجع الا نها في النهاية رؤية نقدية تحتمل ايضا ضرورة التبصر والنقاش ، ونحن اذ نعيد نشرها كاملة في موقعنا فاننا نريد ان نحرض على هذا النقاش ، لضرورته المعرفية والحضارية من جهة وضرورته السياسية الوطنية من جهة اخرى ، لكي نخرج من اطارات الاختلاف السلبية الى اطاراته الايجابية ، ولهذا نعيد نشر هذه المقالة لنقاشها وبأوسع مساحات الحوار الحرة .
رئيس التحرير
المقال
ثمة حالة ترقّب تسود في الساحة الفلسطينية، لا سيما في الضفة والقطاع، بشأن طبيعة الخيارات التي يمكن للقيادة الفلسطينية اتخاذها، على ضوء الجمود المزمن في عملية التسوية، وانسداد الأفق أمام إمكان قيام دولة مستقلّة للفلسطينيين، لكنني على خلاف ذلك لا أعتقد بأن هذه القيادة تملك القدرة على اتخاذ خيارات بديلة، أو مغايرة، للمسار السياسي الذي سارت عليه منذ عقدين من الزمن.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس طرح مؤخّراً على قيادات الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، في اجتماعات تم عقدها خصّيصاً لهذا الغرض، تعذّر إمكان الاستمرار على هذه الحال، على ضوء المصاعب والأزمات السياسية والاقتصادية التي باتت تواجهها السلطة، والفجوة التي باتت تتوسّع بينها وبين شعبها، نتيجة استمرار علاقات الاحتلال، واستمرار الارتهان لقيود اتفاق أوسلو، طارحاً عليهم مناقشة خيارات عدّة، ضمنها: التوجّه نحو إلغاء اتفاق أوسلو، وكل ما تفرع عنه من اتفاقات أمنية واقتصادية، وبحث إمكان الذهاب نحو طرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولو بالضدّ من الإرادة الأميركية، وتنظيم انتخابات عامة تشريعية ورئاسية في الأراضي المحتلة. وطبعاً ثمة خيارات أخرى تطرح في خلفية كل تلك الخيارات، من بينها حلّ السلطة، وإمكان التحوّل نحو تبنّي رؤية سياسية تتأسّس على إقامة دولة واحدة "ثنائية القومية".
ليست هي المرة الأولى التي تدرك فيها القيادة الفلسطينية بأنها محشورة في مأزق، وأنها مضطرّة لطرح بدائل أخرى كالذهاب نحو طرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدلاً من الاستمرار في اللعبة التفاوضي
معلوم أن تلك ليست هي المرة الأولى التي تدرك فيها القيادة الفلسطينية بأنها محشورة في مأزق، وأنها مضطرّة لطرح بدائل أخرى مغايرة، بدلاً من الاستمرار في اللعبة التفاوضية.
فقبل نحو عامين كان الرئيس محمود عباس لوّح باعتماد خيارات أخرى بديلة عن خيار المفاوضات، كردّ على إصرار إسرائيل على مواصلة أنشطتها الاستيطانية، في الأراضي المحتلة، وتلاعبها بعملية التسوية.
حينها طرح الرئيس ستة أو سبعة خيارات، ضمنها وقف المفاوضات، أو طرح القضية على مجلس الأمن الدولي لنيل عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، أو التوجه بطلب إلى الأمم المتحدة لفرض الوصاية على الأراضي المحتلة، أو طلب العضوية المراقبة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو دعم استصدار قرار يفيد بدعم إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، أو حل السلطة، أو الذهاب نحو المقاومة الشعبية.
وطبعاً، فقد كان ضمن هذه الخيارات تقديم الرئيس لاستقالته وذهابه إلى البيت، أو التوجه إلى انتخابات جديدة، وعدم ترشيحه نفسه؛ وهي خيارات فهمت حينها باعتبارها مجرد تعبير عن ابتزاز، أو محاولة ضغط، أو "فشّة خلق".
وللتذكير فقد كان الفيصل حينها في اعتماد هذا الخيار، أو غيره، يتمثل في ما سمي استحقاق أيلول (سبتمبر/2011)، وهو موعد ذهاب أبو مازن إلى نيويورك لإلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن هذا الاستحقاق جرى تجاوزه بكل بساطة، بأعذار واهية، ومن دون طرح أية خطّة بديلة.
القصد من ذلك القول بأن مصير النقاشات الدائرة حالياً، لن يكون أفضل من تلك التي جرت قبل عامين، أي أن هذه النقاشات ستصل بدورها إلى طريق مسدود، ولن يجريَ الحسم بشأنها، هذا بغضّ النظر عن رغبة القيادة الفلسطينية، أو جدّيتها، من عدم ذلك، فالحديث هنا يدور عن القدرة على اتخاذ القرارات، وعن توفّر الإمكانيات اللازمة لوضعها في حيّز التطبيق، من دون التقليل من أهمية الرغبة والجدّية.
في حقيقة الأمر فقد فات الوقت الذي يمكن فيه لهذه القيادة أن تغيّر خياراتها، أو السياسات التي تنتهجها، لسبب بسيط وهو أنها باتت مرتهنة بوجودها -أي بشرعيتها ومكانتها السلطوية وبامتيازاتها- للعملية التفاوضية الجارية مع إسرائيل، أي لمنظومة العلاقات الناشئة عن اتفاق أوسلو (الموقع قبل عقدين تقريباً).
وهذا التقدير لا ينطوي على نفي وجود رغبة للقيادة الفلسطينية بانتهاج خيارات وطنية بديلة، ومغايرة، ولا على التشكيك بجدّيتها في هذا الأمر، فهذا شأن حديث أخر، وإنما هو يتأسس على المعطيات والظروف والارتهانات التي باتت تشتغل في إطارها هذه السلطة.
وعندي فإن هذه القيادة، بوضعها الراهن، لا تمتلك لا القدرة ولا الإمكانيات، على انتهاج سياسات بديلة، أو صنع خيارات مغايرة، من مثل الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع من طرف واحد، أو الذهاب نحو احتضان أشكال المقاومة الشعبية، أو حل السلطة، للأسباب التالية:
أولاً، سيادة حال الترهّل في الكيانات السياسية الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، وتآكل مكانتها التمثيلية في المجتمع، وتراجع دورها في مواجهة عدوها، وعدم قدرتها على تجديد ذاتها، على صعيد المفاهيم والبنى والعلاقات وأشكال العمل.
ولنلاحظ أن الفصائل المكونة للحركة الوطنية الفلسطينية باتت متماهية، بشكل أو بآخر، مع النظام السياسي السائد (السلطة)، بمفاهيمه وآليات عمله، وحتى أن هذه الفصائل باتت غير قادرة على توحيد ذاتها، وتجديد مفاهيمها، وإضفاء الحيوية على وجودها، فما بالك بتوليد بدائل في الإطار الوطني العام.
بمعنى آخر، لقد انتقلت الكيانات السياسية، ببناها ومفاهيمها وأشكال عملها، من كونها حركة تحرر وطني، إلى كونها سلطة، بمعنى الكلمة، لكنها سلطة مشوّهة لأنها لم تنجز مشروع الاستقلال ولو لجزء من الوطن.
هكذا لم يعد ثمة مقاومة، لا مسلحة ولا سلمية، لا فصائلية ولا شعبية، لا في الضفة ولا في غزة! والمعنى أن الكيانات السياسية الفلسطينية تكيّفت مع واقعها، ومع نمط وجودها خلال العقدين الماضيين.
وهذا يعني أن إسرائيل استطاعت تجويف هذه الحركة، ونزع طابعها كحركة تحرر وطني، ويخشى أن إسرائيل تطمح إلى تحويل هذه الحركة، بعد المضي في إدخال تغييرات على قواها المحركة، إلى نوع من وكيل للاحتلال؛ وهو أمر مرهون بما تريده، أو بما ستقرره القيادات الفلسطينية في المرحلة المقبلة.
هنا ينبغي أن ندرك بأننا لا نتحدث عن بنية قيادة تتألف من عشرات الأشخاص، وإنما عن بنية قيادية، في المنظمة والسلطة والفصائل، لها قاعدة اجتماعية تتألف من حوالي ربع مليون شخص، من موظفي السلطة، ومن العاملين والمتفرغين في أجهزة المنظمة والفصائل، بات لها مفاهيمها وعلاقاتها، ومصالحها، وامتيازاتها، بشكل يختلف عن أحوال الفلسطينيين العاديين، فهؤلاء يعملون في دورة اقتصادية مختلفة، وفي دائرة مفاهيم سياسية مرتبطة تماما بواقع السلطة بما هي عليه.
الطبقة السياسية، التي تشكل العمود الفقري للسلطة والفصائل، تعتبر نفسها غير معنية بانتهاج خيارات بديلة، لأنها ستتضرّر من جراء ذلك، في مكانتها، وامتيازاتها، ونمط عيشها
والحال فإن هذه الطبقة السياسية، التي تشكل العمود الفقري للسلطة والفصائل، تجد نفسها، في الأغلب، غير معنية بانتهاج خيارات بديلة، لأنها ستتضرّر من جراء ذلك، في مكانتها، وامتيازاتها، ونمط عيشها.
وتكمن مشكلة هذه "الطبقة" في حرصها على حراسة واقع التكلّس في البنى والسياسة في الساحة الفلسطينية، وفي سعيها إلى تأبيد مكانة السلطة ولو على النحو الذي هي عليه، وفي إصرارها على استمرار المفاوضات، رغم تبيّن عدم جدواها وإضرارها بمصالح الفلسطينيين، وفي ممانعتها لأي تطوير أو تجديد في منظومة الكيانات والخيارات الوطنية، وكل ذلك في سبيل الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها ونفوذها.
ثانياً، لا شكّ أن من عوامل ترسّخ النظام الفلسطيني السائد هو طبيعته "الريعية"، لأن هذا النظام لا يعتمد في تأمين موارده الذاتية على شعبه، أو على إمكاناته الاقتصادية، بقدر ما يعتمد على الموارد المتأتّية من الخارج، وضمنها إسرائيل (الاقتطاعات الضريبية) والدول المانحة بما يشكله ذلك من ارتهانات سياسية ووظيفية، تضر بالمشروع الوطني الفلسطيني، وبعادات الطبقة السياسية القائدة.
هكذا، فمن ناحية الموارد المالية، فإن القيادة الفلسطينية تجد نفسها في مواجهة وضع لا تستطيع تحمل تبعاته، لا سيما مع تعذّر وجود موارد مستقلة تتيح لها التصرّف من خارج الارتهانات والإملاءات السياسية الموجهة نحوها.
ومما يفاقم من ذلك الاحتياجات الكبيرة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، على ضوء أوضاعهم الاقتصادية الصعبة، إذ ثمة 40 ألف وافد جديد على سوق العمل سنوياً، وثمة تضييقات ناجمة عن وجود الاحتلال، الذي يضع قيودا على الاستثمار، وعلى التجارة، وعلى استخدامات الفلسطينيين للأراضي والمياه، فضلا عن تقطيعه التواصل بين الأراضي الفلسطينية.
وفوق كل ذلك ثمة في السلطة حوالي 155 ألف موظّف، تقدر كتلة رواتبهم بحوالي 150 مليونا من الدولارات شهريا، أي حوالي ملياري دولار سنوياً، وهذا يشكل 55% من حجم النفقات الجارية للسلطة.
والمعنى من ذلك أن السلطة الفلسطينية، في وضعها الراهن، غير قادرة على العيش، وتغطية نفقاتها، ورواتب العاملين فيها، بدون الموارد التي ينبغي أن تتدفق عليها من الخارج، وهي موارد لا تأتي، على النحو المطلوب، في حال عدم التزام السلطة بالإملاءات السياسية، وضمنها البقاء في إطار العملية التفاوضية.
وبديهي أن هذا الواقع يضع قطاعات من الفلسطينيين، نظرياً وعملياً، أمام إشكاليتين، سياسية وأخلاقية، لا سيما في المفاضلة بين حقوقهم الشرعية وهويّتهم الوطنية من جهة، وأوضاعهم المعيشية من جهة أخرى.
وحقاً، ففي الظروف الصعبة والمعقّدة التي يعاني منها الفلسطينيون، باتت القطاعات المرتبطة بالسلطة أمام وضع يتطلّب منها الاختيار بين قبول التعايش مع الاحتلال والسكوت عن استمراره والقبول بالتنسيق الأمني معه، مع التغطّي بالعملية التفاوضية ووجود كيان السلطة، أو رفض هذا الواقع، والانحياز إلى مصالح عموم الشعب، وإفراز أشكال من المقاومة المناسبة ضد الاحتلال، مما يهدّد بفقدانها مصدر الدخل، المتأتي من استمرار السلطة بواقعها الراهن.
معلوم أن الخيار الأول يعمّق أزمة الطبقة السياسية السائدة وحال الانقسام في نظامها السياسي، والأهم أنه يهدّد بافتراقها عن الحراكات الشعبية، التي تتّجه نحو التنامي في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية.
في حين يفتح الخيار الثاني على استعادة الحركة الوطنية طابعها كحركة تحرّر وطني، وإنهاء الانقسام، وإعادة تأسيس كياناتها على قواعد مؤسّسية وتمثيليّة وديمقراطية، واعتماد خيارات وطنية تعيد الاعتبار للمطابقة بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين وحركتها الوطنية.
ثالثاً، تشتغل القيادات السياسية الفلسطينية بمعزل عن شعبها، حيث ليس ثمة مراكز صنع قرار، ولا هيئات تشريعية، لا مجلس وطني، ولا مجلس تشريعي، والأهم من هذا وذاك أن المجتمع الفلسطيني ممزق، ويخضع لسيادات متباينة ومختلفة، وهذه نقطة ضعف بالنسبة للفلسطينيين ولحركتهم الوطنية، ولكنها تعتبر نقطة قوة تعمل لصالح القيادات الفلسطينية التي تجد نفسها متحررة في الخيارات السياسية التي تتخذها، فهي لا تخضع لا لمراقبة ولا لمساءلة ولا لمراجعة.
أحد مصادر فقدان القدرة على اتخاذ خيارات بديلة، من قبل القيادة السائدة، إنما يكمن في تهميشها لمصادر قوتها، وأكبر مثال على ذلك يتمثل بتخليها عن ورقة منظمة التحرير، لصالح كيان السلطة
لكن الأمر الأكثر أهمية في هذا المجال هو أن الكيانات السياسية الفلسطينية باتت تتركز في الضفة والقطاع، أي أنها باتت تشتغل بمعزل عن الارتباط بتجمعات اللاجئين الفلسطينيين، الذين تشكل قضيتهم لبّ القضية الفلسطينية، وقلب مشروعها التحرري. وقد كان من نتائج كل ذلك تخلي القيادة الفلسطينية عن أحد أهم مصادر قوتها، وهو المتمثل بهذه الكتلة الكبيرة من الفلسطينيين اللاجئين، فضلا عن التخلي عن القوة الأخلاقية التي تكمن في قضية حق العودة.
هكذا فإن أحد مصادر فقدان القدرة على اتخاذ خيارات بديلة، من قبل القيادة السائدة، إنما يكمن في تهميشها لمصادر قوتها، الكامنة أو الظاهرة، وأكبر مثال على ذلك يتمثل بتخليها عن ورقة منظمة التحرير، لصالح كيان السلطة، وكذا تخليها عن ورقة اللاجئين، وهم كتلة اجتماعية واسعة، كانت فيما مضى حاملة مشروع الكفاح المسلح الفلسطيني.
المعنى من كل ذلك أن انتهاج خيارات سياسية بديلة، ومغايرة -والحديث هنا يتعلق عن خيارات وطنية- في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، إنما يتطلب إحداث تغييرات في بينة الطبقة السياسية المتحكمة بالكيانات السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، أي إنه يتطلب تجديد القيادة الفلسطينية، تجديد شبابها، ومفاهيمها، على أسس نضالية وتمثيلية وديمقراطية.
ماجد كيالي
zaرئيس التحرير
المقال
ثمة حالة ترقّب تسود في الساحة الفلسطينية، لا سيما في الضفة والقطاع، بشأن طبيعة الخيارات التي يمكن للقيادة الفلسطينية اتخاذها، على ضوء الجمود المزمن في عملية التسوية، وانسداد الأفق أمام إمكان قيام دولة مستقلّة للفلسطينيين، لكنني على خلاف ذلك لا أعتقد بأن هذه القيادة تملك القدرة على اتخاذ خيارات بديلة، أو مغايرة، للمسار السياسي الذي سارت عليه منذ عقدين من الزمن.
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس طرح مؤخّراً على قيادات الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل)، في اجتماعات تم عقدها خصّيصاً لهذا الغرض، تعذّر إمكان الاستمرار على هذه الحال، على ضوء المصاعب والأزمات السياسية والاقتصادية التي باتت تواجهها السلطة، والفجوة التي باتت تتوسّع بينها وبين شعبها، نتيجة استمرار علاقات الاحتلال، واستمرار الارتهان لقيود اتفاق أوسلو، طارحاً عليهم مناقشة خيارات عدّة، ضمنها: التوجّه نحو إلغاء اتفاق أوسلو، وكل ما تفرع عنه من اتفاقات أمنية واقتصادية، وبحث إمكان الذهاب نحو طرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولو بالضدّ من الإرادة الأميركية، وتنظيم انتخابات عامة تشريعية ورئاسية في الأراضي المحتلة. وطبعاً ثمة خيارات أخرى تطرح في خلفية كل تلك الخيارات، من بينها حلّ السلطة، وإمكان التحوّل نحو تبنّي رؤية سياسية تتأسّس على إقامة دولة واحدة "ثنائية القومية".
ليست هي المرة الأولى التي تدرك فيها القيادة الفلسطينية بأنها محشورة في مأزق، وأنها مضطرّة لطرح بدائل أخرى كالذهاب نحو طرح الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بدلاً من الاستمرار في اللعبة التفاوضي
معلوم أن تلك ليست هي المرة الأولى التي تدرك فيها القيادة الفلسطينية بأنها محشورة في مأزق، وأنها مضطرّة لطرح بدائل أخرى مغايرة، بدلاً من الاستمرار في اللعبة التفاوضية.
فقبل نحو عامين كان الرئيس محمود عباس لوّح باعتماد خيارات أخرى بديلة عن خيار المفاوضات، كردّ على إصرار إسرائيل على مواصلة أنشطتها الاستيطانية، في الأراضي المحتلة، وتلاعبها بعملية التسوية.
حينها طرح الرئيس ستة أو سبعة خيارات، ضمنها وقف المفاوضات، أو طرح القضية على مجلس الأمن الدولي لنيل عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، أو التوجه بطلب إلى الأمم المتحدة لفرض الوصاية على الأراضي المحتلة، أو طلب العضوية المراقبة من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو دعم استصدار قرار يفيد بدعم إعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، أو حل السلطة، أو الذهاب نحو المقاومة الشعبية.
وطبعاً، فقد كان ضمن هذه الخيارات تقديم الرئيس لاستقالته وذهابه إلى البيت، أو التوجه إلى انتخابات جديدة، وعدم ترشيحه نفسه؛ وهي خيارات فهمت حينها باعتبارها مجرد تعبير عن ابتزاز، أو محاولة ضغط، أو "فشّة خلق".
وللتذكير فقد كان الفيصل حينها في اعتماد هذا الخيار، أو غيره، يتمثل في ما سمي استحقاق أيلول (سبتمبر/2011)، وهو موعد ذهاب أبو مازن إلى نيويورك لإلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن هذا الاستحقاق جرى تجاوزه بكل بساطة، بأعذار واهية، ومن دون طرح أية خطّة بديلة.
القصد من ذلك القول بأن مصير النقاشات الدائرة حالياً، لن يكون أفضل من تلك التي جرت قبل عامين، أي أن هذه النقاشات ستصل بدورها إلى طريق مسدود، ولن يجريَ الحسم بشأنها، هذا بغضّ النظر عن رغبة القيادة الفلسطينية، أو جدّيتها، من عدم ذلك، فالحديث هنا يدور عن القدرة على اتخاذ القرارات، وعن توفّر الإمكانيات اللازمة لوضعها في حيّز التطبيق، من دون التقليل من أهمية الرغبة والجدّية.
في حقيقة الأمر فقد فات الوقت الذي يمكن فيه لهذه القيادة أن تغيّر خياراتها، أو السياسات التي تنتهجها، لسبب بسيط وهو أنها باتت مرتهنة بوجودها -أي بشرعيتها ومكانتها السلطوية وبامتيازاتها- للعملية التفاوضية الجارية مع إسرائيل، أي لمنظومة العلاقات الناشئة عن اتفاق أوسلو (الموقع قبل عقدين تقريباً).
وهذا التقدير لا ينطوي على نفي وجود رغبة للقيادة الفلسطينية بانتهاج خيارات وطنية بديلة، ومغايرة، ولا على التشكيك بجدّيتها في هذا الأمر، فهذا شأن حديث أخر، وإنما هو يتأسس على المعطيات والظروف والارتهانات التي باتت تشتغل في إطارها هذه السلطة.
وعندي فإن هذه القيادة، بوضعها الراهن، لا تمتلك لا القدرة ولا الإمكانيات، على انتهاج سياسات بديلة، أو صنع خيارات مغايرة، من مثل الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع من طرف واحد، أو الذهاب نحو احتضان أشكال المقاومة الشعبية، أو حل السلطة، للأسباب التالية:
أولاً، سيادة حال الترهّل في الكيانات السياسية الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، وتآكل مكانتها التمثيلية في المجتمع، وتراجع دورها في مواجهة عدوها، وعدم قدرتها على تجديد ذاتها، على صعيد المفاهيم والبنى والعلاقات وأشكال العمل.
ولنلاحظ أن الفصائل المكونة للحركة الوطنية الفلسطينية باتت متماهية، بشكل أو بآخر، مع النظام السياسي السائد (السلطة)، بمفاهيمه وآليات عمله، وحتى أن هذه الفصائل باتت غير قادرة على توحيد ذاتها، وتجديد مفاهيمها، وإضفاء الحيوية على وجودها، فما بالك بتوليد بدائل في الإطار الوطني العام.
بمعنى آخر، لقد انتقلت الكيانات السياسية، ببناها ومفاهيمها وأشكال عملها، من كونها حركة تحرر وطني، إلى كونها سلطة، بمعنى الكلمة، لكنها سلطة مشوّهة لأنها لم تنجز مشروع الاستقلال ولو لجزء من الوطن.
هكذا لم يعد ثمة مقاومة، لا مسلحة ولا سلمية، لا فصائلية ولا شعبية، لا في الضفة ولا في غزة! والمعنى أن الكيانات السياسية الفلسطينية تكيّفت مع واقعها، ومع نمط وجودها خلال العقدين الماضيين.
وهذا يعني أن إسرائيل استطاعت تجويف هذه الحركة، ونزع طابعها كحركة تحرر وطني، ويخشى أن إسرائيل تطمح إلى تحويل هذه الحركة، بعد المضي في إدخال تغييرات على قواها المحركة، إلى نوع من وكيل للاحتلال؛ وهو أمر مرهون بما تريده، أو بما ستقرره القيادات الفلسطينية في المرحلة المقبلة.
هنا ينبغي أن ندرك بأننا لا نتحدث عن بنية قيادة تتألف من عشرات الأشخاص، وإنما عن بنية قيادية، في المنظمة والسلطة والفصائل، لها قاعدة اجتماعية تتألف من حوالي ربع مليون شخص، من موظفي السلطة، ومن العاملين والمتفرغين في أجهزة المنظمة والفصائل، بات لها مفاهيمها وعلاقاتها، ومصالحها، وامتيازاتها، بشكل يختلف عن أحوال الفلسطينيين العاديين، فهؤلاء يعملون في دورة اقتصادية مختلفة، وفي دائرة مفاهيم سياسية مرتبطة تماما بواقع السلطة بما هي عليه.
الطبقة السياسية، التي تشكل العمود الفقري للسلطة والفصائل، تعتبر نفسها غير معنية بانتهاج خيارات بديلة، لأنها ستتضرّر من جراء ذلك، في مكانتها، وامتيازاتها، ونمط عيشها
والحال فإن هذه الطبقة السياسية، التي تشكل العمود الفقري للسلطة والفصائل، تجد نفسها، في الأغلب، غير معنية بانتهاج خيارات بديلة، لأنها ستتضرّر من جراء ذلك، في مكانتها، وامتيازاتها، ونمط عيشها.
وتكمن مشكلة هذه "الطبقة" في حرصها على حراسة واقع التكلّس في البنى والسياسة في الساحة الفلسطينية، وفي سعيها إلى تأبيد مكانة السلطة ولو على النحو الذي هي عليه، وفي إصرارها على استمرار المفاوضات، رغم تبيّن عدم جدواها وإضرارها بمصالح الفلسطينيين، وفي ممانعتها لأي تطوير أو تجديد في منظومة الكيانات والخيارات الوطنية، وكل ذلك في سبيل الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها ونفوذها.
ثانياً، لا شكّ أن من عوامل ترسّخ النظام الفلسطيني السائد هو طبيعته "الريعية"، لأن هذا النظام لا يعتمد في تأمين موارده الذاتية على شعبه، أو على إمكاناته الاقتصادية، بقدر ما يعتمد على الموارد المتأتّية من الخارج، وضمنها إسرائيل (الاقتطاعات الضريبية) والدول المانحة بما يشكله ذلك من ارتهانات سياسية ووظيفية، تضر بالمشروع الوطني الفلسطيني، وبعادات الطبقة السياسية القائدة.
هكذا، فمن ناحية الموارد المالية، فإن القيادة الفلسطينية تجد نفسها في مواجهة وضع لا تستطيع تحمل تبعاته، لا سيما مع تعذّر وجود موارد مستقلة تتيح لها التصرّف من خارج الارتهانات والإملاءات السياسية الموجهة نحوها.
ومما يفاقم من ذلك الاحتياجات الكبيرة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، على ضوء أوضاعهم الاقتصادية الصعبة، إذ ثمة 40 ألف وافد جديد على سوق العمل سنوياً، وثمة تضييقات ناجمة عن وجود الاحتلال، الذي يضع قيودا على الاستثمار، وعلى التجارة، وعلى استخدامات الفلسطينيين للأراضي والمياه، فضلا عن تقطيعه التواصل بين الأراضي الفلسطينية.
وفوق كل ذلك ثمة في السلطة حوالي 155 ألف موظّف، تقدر كتلة رواتبهم بحوالي 150 مليونا من الدولارات شهريا، أي حوالي ملياري دولار سنوياً، وهذا يشكل 55% من حجم النفقات الجارية للسلطة.
والمعنى من ذلك أن السلطة الفلسطينية، في وضعها الراهن، غير قادرة على العيش، وتغطية نفقاتها، ورواتب العاملين فيها، بدون الموارد التي ينبغي أن تتدفق عليها من الخارج، وهي موارد لا تأتي، على النحو المطلوب، في حال عدم التزام السلطة بالإملاءات السياسية، وضمنها البقاء في إطار العملية التفاوضية.
وبديهي أن هذا الواقع يضع قطاعات من الفلسطينيين، نظرياً وعملياً، أمام إشكاليتين، سياسية وأخلاقية، لا سيما في المفاضلة بين حقوقهم الشرعية وهويّتهم الوطنية من جهة، وأوضاعهم المعيشية من جهة أخرى.
وحقاً، ففي الظروف الصعبة والمعقّدة التي يعاني منها الفلسطينيون، باتت القطاعات المرتبطة بالسلطة أمام وضع يتطلّب منها الاختيار بين قبول التعايش مع الاحتلال والسكوت عن استمراره والقبول بالتنسيق الأمني معه، مع التغطّي بالعملية التفاوضية ووجود كيان السلطة، أو رفض هذا الواقع، والانحياز إلى مصالح عموم الشعب، وإفراز أشكال من المقاومة المناسبة ضد الاحتلال، مما يهدّد بفقدانها مصدر الدخل، المتأتي من استمرار السلطة بواقعها الراهن.
معلوم أن الخيار الأول يعمّق أزمة الطبقة السياسية السائدة وحال الانقسام في نظامها السياسي، والأهم أنه يهدّد بافتراقها عن الحراكات الشعبية، التي تتّجه نحو التنامي في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية.
في حين يفتح الخيار الثاني على استعادة الحركة الوطنية طابعها كحركة تحرّر وطني، وإنهاء الانقسام، وإعادة تأسيس كياناتها على قواعد مؤسّسية وتمثيليّة وديمقراطية، واعتماد خيارات وطنية تعيد الاعتبار للمطابقة بين قضية فلسطين وأرض فلسطين وشعب فلسطين وحركتها الوطنية.
ثالثاً، تشتغل القيادات السياسية الفلسطينية بمعزل عن شعبها، حيث ليس ثمة مراكز صنع قرار، ولا هيئات تشريعية، لا مجلس وطني، ولا مجلس تشريعي، والأهم من هذا وذاك أن المجتمع الفلسطيني ممزق، ويخضع لسيادات متباينة ومختلفة، وهذه نقطة ضعف بالنسبة للفلسطينيين ولحركتهم الوطنية، ولكنها تعتبر نقطة قوة تعمل لصالح القيادات الفلسطينية التي تجد نفسها متحررة في الخيارات السياسية التي تتخذها، فهي لا تخضع لا لمراقبة ولا لمساءلة ولا لمراجعة.
أحد مصادر فقدان القدرة على اتخاذ خيارات بديلة، من قبل القيادة السائدة، إنما يكمن في تهميشها لمصادر قوتها، وأكبر مثال على ذلك يتمثل بتخليها عن ورقة منظمة التحرير، لصالح كيان السلطة
لكن الأمر الأكثر أهمية في هذا المجال هو أن الكيانات السياسية الفلسطينية باتت تتركز في الضفة والقطاع، أي أنها باتت تشتغل بمعزل عن الارتباط بتجمعات اللاجئين الفلسطينيين، الذين تشكل قضيتهم لبّ القضية الفلسطينية، وقلب مشروعها التحرري. وقد كان من نتائج كل ذلك تخلي القيادة الفلسطينية عن أحد أهم مصادر قوتها، وهو المتمثل بهذه الكتلة الكبيرة من الفلسطينيين اللاجئين، فضلا عن التخلي عن القوة الأخلاقية التي تكمن في قضية حق العودة.
هكذا فإن أحد مصادر فقدان القدرة على اتخاذ خيارات بديلة، من قبل القيادة السائدة، إنما يكمن في تهميشها لمصادر قوتها، الكامنة أو الظاهرة، وأكبر مثال على ذلك يتمثل بتخليها عن ورقة منظمة التحرير، لصالح كيان السلطة، وكذا تخليها عن ورقة اللاجئين، وهم كتلة اجتماعية واسعة، كانت فيما مضى حاملة مشروع الكفاح المسلح الفلسطيني.
المعنى من كل ذلك أن انتهاج خيارات سياسية بديلة، ومغايرة -والحديث هنا يتعلق عن خيارات وطنية- في مواجهة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية، إنما يتطلب إحداث تغييرات في بينة الطبقة السياسية المتحكمة بالكيانات السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل)، أي إنه يتطلب تجديد القيادة الفلسطينية، تجديد شبابها، ومفاهيمها، على أسس نضالية وتمثيلية وديمقراطية.
ماجد كيالي